Adbox

وفا- إلى الشرق من مدينة طولكرم على بعد 6 كيلو مترات، يطل أحد الجبال الصغيرة، إنه جبل المنطار الذي يصل ارتفاعه كحد أقصى إلى 250 مترا... لهذا الجبل قصة ملاصقة لسيرة النضال الفلسطيني أيام الانتداب البريطاني على فلسطين.
تملك عدد من الأسر من بلدة بلعا، وهي إحدى قرى محافظة طولكرم، جبل المنطار بكل سفوحه، باستثناء السفح المطل على الشارع الرئيسي ما بين نابلس وطولكرم .
الجزء المطل على بلعا مزروع بالزيتون، فيما الجزء الآخر المطل على المنعطف الحاد المعروف باسم "لية بلعا" وهو شارع طولكرم- نابلس، صخري مزروع بالأشجار الحرجية، تم زراعتها عام 1964، وهو ما يعرف اليوم بالحرش.
كانت الحياة الفلسطينية سابقا تسير بطبيعتها البسيطة في هذا الموقع، مكان يقصده الفلاحين من قريتي بلعا وعنبتا وغيرها من القرى المجاورة، إما للزراعة أو الاستجمام.
هدوء المكان لم يدم طويلا بسبب ما حل بفلسطين بعد دخول الانجليز إلى أراضيها وفرض الانتداب عليها، وبالتالي رفض المواطنون لهذا الواقع الذي اعتبروه احتلالا، فكان الجبل نقطة انطلاق للثورة الفلسطينية الكبرى التي تعرف ثورة 1936، فأصبح رمزا للمقاومة والثوار.
عمت ثورة 1936، بأحداثها وفعالياتها كل فلسطين من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، ووصلت المدن والقرى والبوادي، وكانت مسلحة وموجهة بالدرجة الأولى ضد الانتداب البريطاني، وكان الناس يعتبرون الانجليز بأنهم أساس الداء وأصل البلاء.
السبب المباشر لاندلاع الثورة كان اكتشاف العمال الفلسطينيين في ميناء يافا شحنة من الأسلحة قادمة من أوروبا باتجاه إحدى المستعمرات اليهودية، كانت معبأة سرا داخل براميل تبدو وكأنها بضاعة.
يقول أستاذ التاريخ المتقاعد نعمان شحرور لمراسلة "وفا"، وهو من سكان بلعا شرق طولكرم، التي تحتضن هذا الجبل من جهتها الجنوبية الغربية: بدأت الثورة بما يسمى الإضراب الطويل الذي استغرق 6 شهور، وهو أطول إضراب في تاريخ العالم، وكان إضرابا عاما، تلاه إعلان العصيان المدني، ثم إعلان الثورة المسلحة، من خلال ما سمي باللجان القومية التي تشكلت في كل مدينة وقرية، وفي تلك الأثناء تجمعت الأحزاب الفلسطينية الأربعة، وشكلت ما يسمى اللجنة العربية العليا، والتي كانت الواجهة السياسية للثورة.
وفي أحد أيام صيف 1936، وصلت طلائع الثورة إلى بلعا، وهي عبارة عن مئات المتطوعين العراقيين والسوريين وبينهم اللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين يقودهم القائد المعروف فوزي القاوقجي وهو من أصل لبناني من مدينة طرابلس الشام، وكان يرافقه عدد من القادة منهم القائد الفلسطيني فخري عبد الهادي، فاستقبلهم الناس هناك بالترحاب الشديد والهتافات العالية، وتوجهوا مباشرة عصر ذلك اليوم كل على جواده ومعهم الناس على جبل المنطار، حيث وضع القادة خطة للاشتباك مع الانجليز.
كانت الخطة تقضي بحفر الخنادق على سفح الجبل المطل على الشارع العام وعلى المنعطف الحاد وكان يسمى"لية بلعا" وما زال يحتفظ بمسماه حتى اليوم، لقطع الطريق على الدوريات الانجليزية العسكرية القادمة من طولكرم والمتوجهة إلى حيفا من خلال طريق نور شمس- لية بلعا- دير شرف-وجنين، لسبب أنه في الحقيقة أنه لم يكن هناك طريق مباشر ما بين يافا وتل أبيب وبين حيفا على الساحل، فكانت الدوريات تضطر للمرور عبر هذا الطريق الطويل.
الخطة قضت أن يكون هناك أعداد من الثوار عند نقطة نور شمس "مكان مخيم نور شمس حاليا عند مدخل مدينة طولكرم الشرقي"، ويكون بحوزتهم حجارة وصخور كبيرة لدحرجتها على الشارع بهدف إغلاقه، بعد أن تتقدم الدوريات من الغرب إلى الشرق بحيث لا تستطيع العودة، وفي نفس الوقت يكون مثلهم من الثوار عند منعطف قرية رامين شرق طولكرم، فيغلقون بدورهم الشارع بحجارة كبيرة بحيث تعجز الدوريات عن تجاوزها فتقع في قبضة الثوار.
فعلا وفي اليوم الثاني، كان الثوار وأعدادهم بالعشرات يرابطون على سفح الجبل، بانتظار تلك الدوريات،  فوصلت مجموعة من الدبابات والجيبات البريطانية إلى المنعطف الحاد، عندها كانت الإشارة بالبدء، فأصلاها الثوار نارا وقنابل فأوقعوا بينهم القتلى والجرحى.. فحاول الناجون منهم العودة إلى طولكرم فوجدوا سدا من الحجارة والصخور أمامهم، فحاولوا الانتقال إلى الشرق عند رامين، إلا أن رصاص الثوار وقذائفهم وقنابلهم كانت لهم بالمرصاد.
ويتابع شحرور.. اتصل الجنود الإنجليز بقيادتهم، فأرسلت الطائرات، مما اضطر الثوار إلى الانسحاب عبر غابات الزيتون والمشمش التي كانت تغطي أراضي بلعا باتجاه القرية المرتفعة، ومن هناك إلى ما يعرف بخربة "وطاة جمعة"، إلى الشمال من بلعا، وهناك كان يتركز الثوار ويقدم لهم الطعام والشراب من الأهالي.
وكان اختيار قرية بلعا لكي تحتضن الثورة كما يقول شحرور، لسببين الأول ارتفاعها ووعورة مسالكها وطرقها، فيما كانت كثرة أشجارها واستعداد أهلها لاستقبال الثوار والحفاوة بهم هي السبب الآخر.
أوقعت الطائرات خسائر بين الثوار، إلا أنهم تمكنوا من إسقاط إحدى الطائرات، فوقعت في وادي قريب من المنطار يسمى "وادي درويش" أول بلعا، لكن استطاعت الحكومة البريطانية أن تنقذ الطيارين، ولكن بقايا الطائرة ظلت لفترة طويلة يستخدمها أهل القرية في تغطية سطوح منازلهم.
أسفرت المعركة عن استشهاد 10 ثوار، بينهم السوريين والعراقيين والأردنيين والفلسطينيين، إلى جانب عدد قليل من المدنيين.
وقال شحرور كانت باعتقادي معركة قومية بامتياز، واعترف بلاغ عسكري بريطاني بسقوط عدد من الجنود والضباط، واعتبر البلاغ أن من قاموا بهذا العمل مجرد أشقياء ولصوص.
بعد هذه المعركة الأولى بفترة انسحب القائد القاوقجي، واجتمع قادة الفصائل على اختيار عبد الرحيم الحاج محمد من ضاحية ذنابة شرق طولكرم قائدا عاما للثورة، هذا القائد الذي اتصف بالاستقامة والإخلاص كان يتنقل حسب مقتضيات ومتطلبات الثورة والأمن من قرى كفر اللبد إلى الشعراوية وإلى مناطق أخرى، لكنه اتخذ من بلعا عرينا له، إلى أن استشهد في صانور بجنين عام 1939.
اعتبر شحرور أن الثورة التي نجحت في التمرد على الانجليز بتكليفه أكبر الخسائر وأكثر من مرة السيطرة على بعض المدن بكاملها، إلا أن هذه الثورة كانت تفتقر كالعادة إلى القيادة السياسية القديرة والتي تستطيع توفير المال والسلاح والتمويل اللازم.
جبل المنطار لعب اسمه دورا في الشعر والأهازيج الشعبية وقيلت فيه الأشعار والأغاني الشعبية عرف منها: جبل المنطار يا العالي جبلنا.. وبدم العدا ترابك جبلنا.
وهكذا أصبح المنطار بمقاومته وشهدائه معلما من معالم الثورة والمقاومة الفلسطينية وما زالت بقايا الخنادق التي حفرها الثوار على السفح المطل على الشارع موجودة حتى اليوم.

أحدث أقدم