Adbox

وفا- لو كان طلاب جامعة بير زيت أو طلاب الكلية العصرية الذين أثخنهم رصاص الاحتلال اليوم الاثنين، طلابا صينيين قمعوا في ساحة تيانانمن لمطالبتهم بالحرية، لما توقفت أميركا منذ العام 1989 وحتى الآن عن النفخ في حجم مأساتهم وتعظيم شجاعاتهم، لكنهم فلسطينيون والمستبد إسرائيلي.
ونقلت عدسات المصورين مشهد الفتاة نسرين عميرة (19 عاما) المتطوعة في الدفاع المدني، وهي تصارع الموت المتمثل في فوهات بنادق الاحتلال الموجهة الى رأسها ورأس اثنين من زملائها المسعفين، في محاولة لإنقاذ طالبين من جامعة بير زيت أصيبا برأسيهما (إصابة أحدهما وصفت بـ"الحرجة") خلال مواجهات مع قوات الاحتلال، اليوم، عند المدخل الشمالي لمدينة البيرة، احتجاجا على اختطاف "المستعربين" رئيس مجلس طلبة بير زيت عمر الكسواني من حرم الجامعة بعد اقتحامها.
عميرة التي نقلت عدسات المصورين شجاعتها في إنقاذ حياة المصابين، لم تنقل مشهد الدماء التي غطت أجزاء من زي المسعفة، فبعيدا عن العدسات حدثتنا عميرة وهي تلملم جراحها وتمسح دماءها الناتجة عن الضرب بأعقاب البنادق في منطقة الصدر والظهر، عن إصرارها هي وكل المسعفين على إنقاذ المصابين من جنود الاحتلال الذين يتعمدون احتجاز أي مصاب لتركه ينزف حتى الموت.
وقبل أن تعود لاستكمال عملها، تجيب عميرة باسمة وهي تضع قناع الواقي من الغاز على كتفها، هذه الإصابة الثالثة خلال عملي، ولكن هذا لن يثنينا عن مواصلة عملنا الإنساني.
المشهد ذاته يتكرر في ذات المكان (المدخل الشمالي لمدينة البيرة) للمسعفين في جمعة الغضب الأولى المنددة بقرار ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال ونقل السفارة اليها، وهم يواجهون الموت في كل خطوة او حركة لإنقاذ حياة الجريح محمد أمين عقل قبل استشهاده.
محمد ناصر عمر (25 عاما) من بلدة قراوة بني زيد، متطوع يعمل مسعفا في الدفاع المدني أيضا، كان على موعد مع الخطر مرتين في جمعتي الغضب الثانية والثالثة، يروي كيف كانت شجاعة المسعفين أقوى من تهديدات الموت التي أطلقها جنود الاحتلال لهم، عقب إطلاقهم النار على الشاب محمد عقل.
 ويقول عمر بعد أن أطلق جنود الاحتلال النار على الشاب عقل بذريعة طعنه جنديا، وأصبح مصابا وملقى على الارض، تدخلنا انا ومسعفين آخرين، لننقذه بعد أن أمطروه بوابل من الرصاص، فكان جنود الاحتلال بحالة هستيرية تماما وصوبوا بنادقهم تجاهنا وكانوا في حالة رعب جنوني، ورغم ذلك تقدمنا ووضعنا الشاب الجريح (قبل ان يستشهد لاحقا) في السيارة فهاجمونا، وسحبوا مفاتيح سيارة الإسعاف الأولى، ثم الثانية، والثالثة، وكنا في كل لحظة نرى الموت في كل خطوة، الا اننا أكملنا عملنا الانساني.
وتابع، بعد ذلك وبأعجوبة استطعنا ان ننتزع الشاب من براثنهم وانطلقنا به مسرعين وهو على الحمالة، ومشينا به مسافة 200 متر تقريبا على الأقدام، وهم يلاحقوننا ويهددوننا بإطلاق النار علينا من الخلف اذا لم نتوقف وكنا نسمع أصوات إطلاق النيران، لكننا استمرينا بالركض بالجريح حتى استطاعت سيارة خصوصي أن تقلنا إلى أقرب مستشفى استطعنا الوصول اليه.
وفي جمعة الغضب الثالثة، يروي عمر كيف تعرض لإصابة بعينيه، بعد ان حاول المسعفون التدخل لإنقاذ شاب جريح خلال محاولة قوات الاحتلال اعتقاله عقب المواجهات التي اندلعت عند المدخل الشمالي لمدينة البيرة.
وقال: بعد ان رأينا دماء الفتى الجريح تسيل من رأسه، أسرعنا لتضميد جروحه، وعندما وصلنا الى الشاب الجريح سمعنا صوت قائد الجنود وهو يبلغ جنوده صراحة وبصوت عال، ان اقتربوا (يقصد المسعفين والصحفيين)، ثم أطلقوا النار باتجاهنا لمنعنا من الوصول الى الجريح، واعتدوا بالضرب علينا، وأصبت بشظايا في عيني.
مشاهد لو كانت لأصحاب "الخوذ البيضاء" (وهي منظمة يقول مريدوها انها إنسانية تساعد المحتاجين، ويتهمها معارضوها بانها على صلة بالإرهاب وبشركة بلاك ووتر الاميركية للمرتزقة) وهم في الغوطة او في حلب او ادلب، لفازوا بجائزة الاوسكار الاميركية على المشاهد التي سجلت شجاعتهم، ولرشحت عميرة أو محمد وكل المسعفين لجائزة نوبل للسلام كما حدث مع أصحاب الخوذ البيضاء، لكنهم فلسطينيون والمنتهك لكافة المعاهدات والمواثيق هنا الاحتلال الاسرائيلي.
وتشير أرقام جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني فقط، الى ان عدد الانتهاكات على طواقمها بلغ منذ بداية عام 2017 وحتى نهاية ايلول من العام ذاته قد بلغت 52 انتهاكا منها 12 إصابة في صفوف المتطوعين والمسعفين، و53 حالة عرقلة لحركة سيارات الإسعاف، و8 حالة اعتداء على سيارات الاسعاف.
مشاهد أخرى تكررت، فلو كانت الطفلة عهد التميمي فتاة باكستانية أرادت الولايات المتحدة استغلال مأساتها لضرب صورة حركة طالبان، لأضحت ايقونة تعبر عن حقوق المرأة، ولسميت بـ"الناشطة" بدلا من "الارهابية"، ولمنحت 43 جائزة اثنتان منها لنوبل والبقية لا تقل أهمية (14 جائزة من الـ43 اميركية) كحال الفتاة ملالا، بدلا من منحها القيد والزنزانة، لكنها فلسطينية والجلاد اسرائيلي.
ولو كان إبراهيم أبو ثريا شابا يشارك بمظاهرات في دولة تعتبرها اميركا معادية لها.. وقطعت قدماه في المسيرات وعاد جنود تلك الدولة ليقتلوه بالرصاص وهو أعزل ومقعد، لحوّله الإعلام الاميركي الى "ايقونة" في معاني الوطنية والشجاعة لكنه معدم، وفقير، وفلسطيني، ولاجئ من مخيم في قطاع تحاصره "اسرائيل".
"هوليود" التي خلدت في الفيلم الشهير "بانغ بانغ كلوب" ذكرى المصور جريج مارينوفيتش الذي نال جائزة "بوليتزر" التصوير الفوتوغرافي في عام 1991 لتغطيته قتل أعضاء المؤتمر الوطني الأفريقي (هو الحزب الذي ينتمي اليه الراحل نيلسون مانديلا والمتعاطف مع القضية الفلسطينية) قتل جاسوسا او هكذا كان يعتقد، وكيفن كارتر الذي حصل على جائزة بوليتزر لصورته خلال مجاعة عام 1993 في جنوب السودان الذي انفصل لاحقا عن السودان، وجيمس ناكتوي الذي أصيب خلال تغطيته لغزو الولايات المتحدة للعراق، وجواو سيلفا الذي فقد ساقه خلال مرافقته دورية احتلال اميركية خلال نشاطها في قندهار والذي كرمه الرئيس السابق باراك اوباما في مكتبه بالبيت الابيض، لكنها لم تلتفت الى مأساة الصحفي الفلسطيني العامل ايضا في وكالة "الأسوشيتد برس" الأميركية حاتم موسى.
وكان موسى قد تعرض لانفجار من مخلفات العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 (وهو العام الذي استشهد فيه ايضا 17 صحفيا، وأصيب 18 آخرون، وقصف 17 مقرا اعلاميا في قطاع غزة)، حيث بترت ساقه خلال الانفجار وخضع بعدها لـ45 عملية جراحية، كان آخرها قبل اشهر بعد ان بدأت السوائل تخرج مجددا من بطنه.
موسى (42 عاما قضى 20 منها في العمل الصحفي) لا تسعفه أنفاسه حتى لحظة اتصالنا به، من إكمال الكلام بعد ان ثقبت رقبته عند الحنجرة في عملية جراحية وركب جهاز لمساعدته على التنفس، فهو يعاني ايضا من ازالة أجزاء من قدمه الأخرى، ومن وجود تجويف في بطنه، وإصابة في اليد، حيث لا يزال حتى اليوم يتلقى العلاج في أجزاء جسده المتضررة.
يقول موسى: "أنا الآن اتنقل على العكاز، لكني اخترت هذه المهنة وهذه الطريق رغم خطورتها، ويدفعنا واجنبا الوطني والأخلاقي لنقل جرائم الاحتلال وإن دفعنا حياتنا مقابل ذلك".
وبحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين فقد بلغت عدد الانتهاكات الإسرائيلية بحق الصحفيين خلال العام الماضي 740 انتهاكا.
أحدث أقدم