Adbox
الحياة الجديدة- فلكلور ربط الحجر بالبشر، وإرث غني ينقل بتعابير الجمال والأصالة حكاية وطن ترويها الأمهات والجدات من كل قرية ومدينة بأطراف الأنامل، وتعويذة كنعانية تحمي الهوية الفلسطينية من الضياع والطمس والتزوير، ومن سطو ممنهج يستهدف في وضح النهار وأطراف الليل، وجه أرض عربية تتوضأ بالإسراء والمعراج.. إنه الثوب الفلسطيني.
الثوب لفلسطيني في الأصل هو إرث كنعاني، منذ برع الكنعاني الاول قديما في صباغة الأنسجة القطنية والصوفية بما فيها الأثواب، وفي الفرع هو وصية حافظت الأجيال على شكلها ولونها الكنعاني الأرجواني الجميل إلى يومنا.
وتعتبر مديرة مركز التراث الفلسطيني مها السقا، الثوب التقليدي جزءا لا يتجزأ من التراث والهوية الفلسطينية، بل ووثيقة هوية وجودنا الخالدة، مؤكدة أن القضية الوطنية والتي هي قضية العرب المركزية الأولى ارتبطت بكل ما يحيط بنا من تراث وتاريخ.
وتحرص أغلب الفلسطينيات في الوطن وفي ساحات الشتات والغربة اليوم ورغم الكلفة المادية المرتفعة للثوب المطرز يدويا وتبدل كثير من العادات والتقاليد على اقتناء ثوب تقليدي واحد على الأقل، وعلى ارتدائه والظهور به خاصة في المناسبات الاجتماعية والوطنية.
وتعمد كثيرات وخاصة في الأرياف إلى تطريز أثوابهن بأيديهن او بمعونة الجارات والصديقات، حيث تتولى كل واحدة - ضمن عونة معروفة - تطريز جزء من الثوب بخيوط الحرير الملونة وتحويله إلى لوحة فنية قد يستغرق انجازه عدة أشهر، ما يجعل من الثوب قطعة نفيسة وربما أغلى ما في أدراج المرأة الفلسطينية من متاع يخصها.
وتتسم عملية التطريز في القرى خصوصا بطقوس اجتماعية بادية لتخفيف روتين العمل المرهق ذهنيا وللتقليل من رتابته وتقدمه البطيء.. وتجتمع النسوة في افنية المنازل في الأيام المشمسة بعد تدبير شؤون منازلهن، ويمضين ساعات في عمل مشوق، لكنه يحتاج الى تركيز ذهني خاص وهن يتجاذبن أطراف الحديث وسرد الحكايات وحتى ترديد أغان شعبية معروفة.
وقد تحتاج امرأة ماهرة إلى أكثر من يوم كامل لتطريز كرة واحدة لا يزيد طول خيوطها المتصلة على 30 مترا لتغطي بالكاد مساحة يسيرة من الثوب.
وتبدأ رحلة انجاز الثوب عادة باختيار نوع القماش المطلوب وعادة ما يكون القماش من أنواع فاخرة، ثم انتقاء موديل الثوب المطلوب من بين الأثواب المعروفة بمساعدة متخصصة في تفصيل الثياب «خياطة نسائية « تتولى قص القماش الى 7 قطع منفصلة، هي الجانبان ويسميان البنيكة، والقفى والمقدمة والكمين والقبة الصدر وعادة ما تكون على شكل مستطيل متصلة قاعدته على شكل مثلث مقلوب قائم الزاوية مع فتحة للعنق دائرية الشكل او على شكل الرقم 7.
وتبدأ عملية التطريز باختيار نموذج التطريز المكون غالبا من وحدة فنية متكاملة مأخوذة من البيئة المحيطة من شجر وزهر وطير او حيوان او وحدات زخرفية أخرى يتم تكرارها الواحدة تلو الأخرى بالاعتماد على النقل على طريقة عد القطب وانحناءاتها مرة تلو الأخرى لتشكيل الرسم المطلوب، وانتقاء نوع وألوان خيوط الحرير المناسب والذي يتوفر على شكل كرات صغيرة يتراوح ثمن الواحدة منها بين دولار ودولار ونصف الدولار حسب جودة الخيوط، ويحتاج الثوب نحو 20 كرة وقد يستهلك بعضها أربعين كرة واكثر، ويتكلف تطريز كرة واحدة بين 10 و13 دولارا ما يرفع ثمن ثوب متواضع الى نحو 1200 دولار اميركي وقد يصل الى الضعف وهو مبلغ يعتبر خياليا لقاء ثوب في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تعاني من ظروف اقتصادية صعبة ومستوى بطالة عالٍ وفقر مرتفع.
وتنتشر في المدن الفلسطينية الكبيرة اليوم متاجر لتأجير الاثواب الفلسطينية عوضا عن محال البيع لتمكين النساء وعريفات حفل ومذيعات من استئجار اثواب لارتدائها في المناسبات الاجتماعية وفي البرامج والفعاليات الوطنية بكلفة قد تصل 200 دولار للتغلب على ظاهرة ارتفاع الأسعار التي أثرت سلبا على حرفة التطريز التي كانت رائجة في الريف الفلسطيني خاصة وتشكل فرصة عمل في البيت ومصدر دخل لكثيرات.
وتحتفظ مدن فلسطين ومحافظاتها بأثواب خاصة بها ويمكن تمييزها عن غيرها بسهولة وهي أثواب تعود الى جذور ضاربة في عمق الأرض والتاريخ، وتعكس الأثواب غالبا الطبقة والحالة الاجتماعية لصاحبته، والمناسبة.
وتعتقد مها السقا ان ثوب مدينة أريحا، هو من أقدم الأثواب الفلسطينية، حيث عرفه الكنعانيون قبل (5) آلاف عام، أي نصف عمر المدينة، التي تعد من أقدم المدن التي لا تزال مأهولة، ويناهز عمرها الـ (10) آلاف عام.
ويمتاز هذا الثوب بالخطوط الطولية والزخارف التي تدل على أهم الآثار الحفرية القديمة في المدينة، إذ كانت النساء يرتدين هذا الزي عند تقديم الهدايا للفراعنة، وفي المناسبات شديدة الاهمية.
وبخصوص ثوب يافا تضيف السقا وهي خبيرة ضليعة في امور الثوب النسائي الفلسطيني: «لأن يافا اشتهرت ببيارات البرتقال التي تحيط بها أشجار السرو الخضراء، تميزت أثوابها بالزخارف التي تشير إلى البرتقال وأشجار السرو، مدموجة بين ألوان البرتقالي بالوسط، المحاط باللون الأخضر، أما ثوب بئر السبع فيعبر عن الحالة الاجتماعية للمرأة المتزوجة هناك، حيث ترتدي الثوب المطرز باللون الأحمر، وفي حال توفي زوجها، ترتدي الثوب المطرز باللون الأزرق، وإذا تزوجت المرأة مرة أخرى، تمزج ألوان ثوبها بالأزرق المدموج بتطريز من زهور وألوان مختلفة.
وتشير إلى أن زيادة الاهتمام بالثوب الفلسطيني ظهرت في بداية الانتفاضة الأولى، إذ وجد فيه الفلسطينيون سلاحا يدافعون به عن تاريخهم وحضارتهم»، وتقول: «علينا أن نمارس التراث ونحبه بداخلنا حتى يبقى ملكا لنا، فالتراث هو كل ما تركه لنا الأجداد من ثروة، وكما قيل: (أمة بلا تراث.. أمة بلا مستقبل) والثوب هو من أهم ما تركته الأجيال السابقة لنا، وهو ما يرسم الصورة الكاملة والدقيقة للوطن، وتراكم تراثه وحضارته، لافتة إلى أن الشعب الفلسطيني الذي راكم هذه الحضارة التي امتدت لآلاف السنين، يحق له وبكل جدارة أن يعلن انتماءه لهذا الوطن، وما الثوب الفلسطيني إلا وثيقة امتلاك لهذه الأرض عبر التاريخ.
وتولي جمعية إنعاش الأسرة بمدينة البيرة بعد ان أنشأت مركزا للتراث الثوب الفلسطيني اهتماما خاصا بالثوب الفلسطيني وتنظم عروض أزياء تشمل اغلب الأشكال والأنواع ومن مختلف المناطق. ضمن نشاط يستقطب جمهورا واسعا.
وفي اطار الدفاع عن الهوية والقضية خاض الفلسطينيون معركة الحفاظ على الثوب بل سعوا من خلاله الى دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية العالمية عبر تسجيل ثوب عملاق هو الاكبر باسم فلسطين فيما تستعد مؤسسة تراثية محلية لصنع اكبر موسوعة للتطريز تظهر عليها اغلب الاثواب الفلسطينية، اضافة الى نشاط الجمعيات والاطر النسوية والتراثية العاملة في الحقل.
وتعتبر السقا ضمن حديثها عن الثوب معرفة التراث ونشره وممارسته جزءا من الالتزام الوطني، حيث يعمل على وحدة أبناء الوطن الواحد، مشيرة إلى أن المرأة الفلسطينية حافظت على ارتداء الثوب الفلسطيني إلى يومنا هذا، ففي كل المناسبات كالحناء والعرس، وفي الاحتفالات الوطنية، وعند استقبال الشخصيات المهمة، وفي مقدمة فرق الكشافة، يظهر الثوب الفلسطيني بوضوح، حتى أصبح ارتداؤه متداولا باستمرار في الوطن والشتات، مؤكدة انه بكثرة تداوله، عمل على قهر الاحتلال الذي لم يستطع محو الأصول الكنعانية الثابتة والمتجذرة في الشعب الفلسطيني.
وتطرقت إلى السّياح الأجانب، الذين يولون اهتماما كبيرا بدراسة التراث الفلسطيني، وأعربوا في أكثر من مناسبة عن انبهارهم من دقة حياكة الثوب، لافتة إلى أن كثيرا من السّياح يأخذون أثوابا فلسطينية إلى أوطانهم لسرد حكاية كل ثوب وتميزه.
وتسعى نساء الى استخدام آله الخياطة لتطريز أثواب بالحرير والقصب بكلفة تعتبر زهيدة مقارنة مع الثوب التقليدي لكن هذا النوع من الأثواب لا يشكل منافسة تذكر ولا يلقى الرواج لا سيما أن المرء لا يحتاج لبذل جهد بصري لكشفه.
وتقول السقا: بعدما سرق الاحتلال الأرض وغير معالمها، لم يجد له تراثا يدافع عنه للبقاء، فأخذ يسرق تراثنا ومنه الثوب الفلسطيني، حتى ان مضيفات شركة الطيران الإسرائيلية «العال» وعارضات الأزياء الإسرائيليات، لبسن ثوب «عروس بيت لحم» المعروف بثوب «الملك» وقدمنه للعالم على انه زي اسرائيلي.
وأردفت لم تتورع إسرائيل عن تسجيل الثوب باسمها في المجلد الرابع من الموسوعة العالمية في عام 1993 مع وضع الصور، لكننا ناضلنا حتى إزالته من الموسوعة كتراث يهودي في عام 2007 مشيرة إلى أن هذا يدل على استمرار ما وصفته نهجا بالاستيلاء على التراث الفلسطيني.
وبالتوازي نجح الفلسطينيون مؤخرا في ضم الثوب الفلسطيني المطرز الى موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية، عبر ثوب عملاق هو الاكبر من نوعه استغرقت عملية انجازه ثلاثة أشهر، وتجاوزت تكلفته نحو (40) ألف دولار.
وتتنوع أشكال الثوب الفلسطيني في «الأردان» وهي ما تعرف بـ»القبة الرئيسية» وهي الأكمام الواسعة المطرزة من الثوب، و»البنايق» وهي جوانب الثوب، و»الردفة» وهي الظهر الخلفي للثوب، وكانت المرأة الفلسطينية تهتم بظهر الثوب أكثر من صدره، وهو ما جعل الردفة أجمل وأهم مكونات الثوب، علما بأن المرأة في القدم لم تكن تظهر وجهها، فكان الظاهر من الثوب هي الردفة.
أما بالنسبة للألوان، فأهمها الكنعاني المأخوذ من معنى كلمة «كنعان»، وهي الأرجوان، وتدل على اللون الأحمر بجميع مشتقاته، وهذا يبرز أن معظم الأثواب الفلسطينية يغلب عليها اللون الأحمر.
ويختلف اهتمام الفلسطينيين على اختلاف شرائحهم الاجتماعية وبيئة السكن الحضرية والقروية والبدوية وحتى في المخيمات بالثوب ويظهر الاهتمال أشكال الثوب التي تعكس المستوى الاجتماعي وتشي بمكان السكن المرأة وبيئتها وذوقها، فيظهر الزي البدوي والثوب الرهباني، وتتنوع الأثواب باختلاف المنطقة ما بين الثوب المجدلاوي والشوقي والمقلم والتوبيت السبعاوي والتلحمي والدجاني وثوب الزم وأم العروق والاخصاري والملس القدسي وثوب الجلاية وثوب الجنة والنار. وهناك اثواب خاصة بالعروس سواء المخصصة ليوم العرس او ليلة الحناء.

أحدث أقدم