وفا - لا
تعرف من أي ضحية من ضحايا صبرا وشاتيلا تبدأ الرواية، فكل الموت بشع، وكل الوسائل
التي اتبعها القاتل كانت مرعبة، لكن الأبشع والأكثر رعبا هو أن لا تُروى.
ولا
بد من الإشارة إلى أن الناس قُتلت في منطقة صبرا ومخيم شاتيلا وهي دون طعام
وكهرباء، مات الكثيرون منهم جوعى، بعد أن حوصروا لثلاثة أيام، دون أن يسمح لهم
بالخروج.
في
كتاب "صبرا وشاتيلا، لبيان نويهض الحوت، تُسجل عشرات الروايات للضحايا،
والشهود، الذين رووا كيف عُذب أقاربهم وأبناؤهم، أمام أعينهم، أو من خلف ستار لم
يُفلح في تغطية الجريمة، وكيف نجوا بأعجوبة من موتٍ أكثر من مُحقق، روايات تُخبر
العالم ماذا صنعت المجزرة في الناس، وجدران لو قُدر لها أن تنطق لقالت: قُتل عليّ
مائة. وأسقف لو مُنحت معجزة الكلام لقالت: هويت على عائلات، وهي نائمة، أو مُلتمة
على الطعام، هويتُ فوق أطفال، ورُضع، فوق مشلولين، وعجائز.
الحاج أبو سليمان
من
مخيم نهر البارد في طرابلس، كان ذاهبا في اليوم الأخير للمجزرة، السبت 18 أيلول،
الى برج البراجنة وشاتيلا لزيارة اقارب له، فألقت ميليشيا مسلحة القبض عليه قرب
طريق المطار، واعتبرته كنزا ثمينا، ضحية جاءت تسعى اليهم ووفرت عليهم عناء البحث
عنها.
قال
للحاجز الميليشياوي بصدق وسذاجة إنه جاء الى شاتيلا لزيارة أقارب له، وكان لسان
حالهم يقول: يا للجريمة النكراء.. فلسطيني ذاهب إلى شاتيلا! المطلوب أن يرحل
الفلسطيني عن شاتيلا إلى أي جهنم.
اقتادوا
أبو سليمان إلى المدينة الرياضية، ألقوا بكوفيته على الأرض امعانا في اذلاله، طلب
كوفيته لأن الشمس حرقت رأسه، لم يستجيبوا، فطلبها ثانية بعد أربع ساعات من جلوسه
في الشمس وأمامه الجثث وأناس تقتل وتدفن في حفر، فجاءوه بالسكين، ذبحوه ورموه في
الحفرة، ليكمل آخر أنفاسه فيها، لكنه لم يمت! وحين ابتعدوا قليلا زحف بدمه وخرج من
الحفرة من بين عشرات الجثث، مشى قليلا ليجد أمامه ضابطا اسرائيليا، فقال له: احنا
بنعالج يا حج في اسرائيل، فرد عليه: لا لا، وهوى على الأرض، لم يستيقظ إلا في
مستشفى "أوتيل ديو"، أنقذه الصليب الأحمر.
مرت
عشرة أيام، ولم يعد أبو سليمان، تيقن أهله وأقاربه أنه استشهد في المجزرة، فتحوا
له بيت عزاء في برج البراجنة، وخلال استقبالهم للمعزين، جاء ساعي بريد، وطلب من
زوجته التوجه معه الى بيته، لأن فتاة تنتظرها، ورغم صعوبة الموقف إلا أن أم
سليمان، ولأن الأمر يتعلق بزوجها ذهبت، وهناك وجدت فتاة عرفت عن نفسها بأنها شقيقة
حنا ذياب، صاحب محلات الأدوات الصحية في برج البراجنة.
وقالت: أبو سليمان في مستشفى "أوتيل
ديو" وهو بحالة صحية خطيرة ويعيش على التنفس الاصطناعي، في صباح اليوم التالي
توجهت زوجته إلى المستشفى وبعد أسبوعين نقلته الى مستشفى غزة، عاش أربعة أشهر وهو
يتحدث ويروي ما جرى له بالإشارات، ثم فجأة تحدث وأعاد ما ذكره بالإشارات، تحدث لثلاثة
أيام فقط، ومات.
تقول
بيان الحوت في كتابها "صبرا وشاتيلا": العنوان الأبرز الذي يجسد عمليات
الاقتحام في الليلة الأولى هو "الملاجئ"، ذلك بأن وصول المسلحين
المهاجمين مباشرة إلى مواقع الملاجئ كان الدليل على وجود الجواسيس المقنعين الذين
روى عنهم الشهود قيامهم بجولات في سيارات مشبوهة، وغريبة في منطقة شاتيلا، تحت
حماية الحصار الإسرائيلي، يسألون عن أماكن الملاجئ بالتحديد.
المجازر
ليست حروبا يشعلها القصف فيحتمي الناس بالملاجئ. في المجازر لا تُبعد الملاجئ
الموت عن الخائفين الأبرياء، إنما هي التي تقودهم إلى حتفهم، إنها المكان الأولى
على خرائط القتلة.
ملجأ
أبو ياسر
أول
تلك الملاجئ كان ملجأ أبو ياسر، وهو سوري، وقد بنى ملجأه الصغير ليحميه ويحمي
عائلته وبعض الجيران، لكنه في المجزرة استوعب العشرات، بعضهم قتل حالا، قبل أن
يقسموهم الى قسم الرجال الذين وضعوهم على الجدار المقابل للملجأ في كراج أبو جمال،
ومحطة الوقود القريبة، وأطلقوا عليهم الرصاص، أما النساء، والأطفال، فأخذوهم الى
طريق مستشفى عكا، وهناك قتلوهم.
يقع ملجا أبو ياسر في قلب منطقة حرش ثابت، وكانت
عائلة المحمد المنحدرة من قرية سحماتا قضاء عكا هي الأكثر خسارة في ذلك الملجأ،
حيث قتل 11 من العائلة، وهم: الأب، والزوجة، وتسعة من أبنائهم، في خيمة فوق أرض
المجزرة.
الناجية الوحيدة من أسرتها تحدثت للصحفي جاك
ريدن، مراسل "اليونايتد برس"، قائلة: خرجت مع صديقتي من الملجأ لصعوبة
التنفس، وحينما شاهدت القتل في المنطقة، عدت للبيت، والملجأ، وأخبرت أسرتي ومن
يتواجدون عندنا، فخرجوا يحملون الرايات البيض، لكن جنود الكتائب قتلوهم، اختبأت في
حمام البيت، رآني أحد الجنود اطلق عليّ الرصاص وطلب من امرأة أن تحضرني، وكان في
البيت ابن عمي وعمره 9 أشهر يبكي بشدة، فصرخ الجندي بوجهي: لماذا يبكي هذا الطفل؟
وقبل أن أتلفظ بكلمة واحدة أطلق النار على كتفه، بدأت أبكي عليه، وأخبرت الجندي أن
هذا الطفل هو الناجي الوحيد من عائلته، فقام بإمساكه من قدميه، وتمزيقه إلى نصفين.
حكاية
أمل
تقطن في مخيم شاتيلا، شابة فلسطينية بكماء،
تزوجت مطلع العام 1982، حامل في شهرها الثامن، اختبأت مع زوجها داخل أحد الملاجئ،
وحين دخل الجنود قتلوا زوجها أمامها ببلطة، وقطعوا يده ورموها على أمل، ثم جاءوا
بسكين وأدخلوها في بطن أمل، وأخرجوا الجنين أمام عينيها.
قصة
منير
ابن
الحادية عشرة، الذي خرج مع أمه، واخوته الصغار، من ملجأ ابو ياسر، وعشرات النسوة
والأطفال، واصطفوا على الحائط، حيث أطلق الجنود عليهم النار، وسقطوا جميعا، فكان
الجنود ينادون مين عايش لنأخذه إلى المستشفى، وكانت والدته ما زالت مصابة، فقررت
الوقوف لكن امرأة سبقتها، وقالت انا فرد الجنود عليها بالرصاص، لحظتها أمر منير
أمه بالسكوت، وظل طوال الليل يتظاهر بالموت، وفي الصباح وجد أمه ميتة، وكذلك
اخوته، وجميع من كانوا من النساء، والأطفال، وكان الناجي الوحيد من الحادثة. منير
انتقل من بيروت الى واشنطن، ولبى دعوة الكاتبة الحوت، وعاد بعد 17 عاما الى المكان
لأول مرة، وفاجأه الباب الضيق للملجأ: أمن هذا الباب الضيق خرج قبل 17 عاما كل ذلك
الموت الذي رأيته!.. وعاد يسرد تفاصيل سماعه أصوات فتيات، ونسوة كن يغتصبن في
الجوار.
حكاية
مصطفى هبرات
أطلق
الجنود النار على زوجته الجزائرية آمال وأطفاله الثلاثة وكان منهم طفلته الرضيعة،
أمام بيتهم بعد أن اعتقلوا مصطفى، واقتادوه الى منطقة قريبة، حيث يتم تجميع
الرجال، لكن أصوات الرصاص الغزير وصراخ طفلته الرضيعة جعله يحاول الفرار، لكنهم
باغتوه بإطلاق الرصاص، وكان معه نحو عشرين رجلا، أطلقوا عليهم جميعا النار، لكن
مصطفى لم يمت، استفاق بعد منتصف الليل على وجع ودماء تنزف منه، ووجود جثة فوقه،
وظل مختبئا دون حراك، حتى تمكن من الزحف الى مكان آمن، ثم غادر إلى ألمانيا،
لاستكمال علاجه.
حكاية
ماري
"كان
والدي واخوتي وجارنا بشربوا قهوة صباح يوم الجمعة، دخلوا علينا أربع مسلحين، وكان
ستة غيرهم بالخارج معهم "بواريد"، وسكاكين، وبلطات، أخذونا إلى طريق
المدينة الرياضية، وأجبرونا نمشي فوق الجثث، بدون ما نتطلع، أو نحكي، كانت جرافات
تدفن الناس، وهي مصابة، وفيها نفس، وحياة، مسلح أعطى ابوي سكين، وأخبره "يلا
اقتل ابنك"، قال له مسلح اخر: احنا تعاهدنا نقتلهم بأيدينا، وذبح أخوي قدامنا
بالسكين من رقبته، وقع قدامنا، والدم ينفر منه، واحنا نتطلع ع أنفاسه الاخيرة،
بعدها قتلوا أبوي بالرصاص، وقالوا يلا امشي روحي احكي اللي شفتيه".
حكاية
ام وليد.. "أخذوني انا وامي واختي ع المدينة الرياضية، وطلبوا من زوجي وابني
الكبير واخوتي الثلاثة البقاء في البيت، طلبوا منا المشي فوق الجثث المكدسة في
الطرقات، وحين وصلنا قال جندي من القوات اللبنانية، هاي كمان عيلة فلسطينية، فرد
عليه زميله: هذه دورها في الحفرة الكبيرة". رأيت المئات يتم اقتيادهم،
واحضارهم الى المدينة الرياضية، ثم وقع انفجار قريب، وتمكنت من الهرب، والعودة
لبيتي، فوجدت زوجي بلا رأس، ويد ابني مقطوعة، وملقاة على كتف خاله المقتول ايضا،
وشقيقي الثاني مقتول بـ15 رصاصة، وسكاكين في وجهه، وشقيقي الثالث قسموا رأسه إلى
نصفين ببلطة.
هذا
جزء من الحكايات التي وصلت في الكتب، وهي بالتأكيد لا تُساوي صورة واحدة التقطت
على عجل، وبخوف في اليوم الثالث، أو الرابع للمجزرة، فماذا لو كانت في اليوم
الأول، الأكثر دموية ورعبا!
ماذا
لو تمكن آخر المذبوحين من عائلة ما من تلك العائلات الـ67 التي ذبحت جميعا، من
رواية اللحظات الأخيرة في الحياة لعائلته، وكيف قطعوا أمامه بالبلطات، والسكاكين،
أو تمكن فرد من افراد العائلات الـ270 التي فقدت أربعة، أو أكثر من أبنائها، من
الادلاء بشهادته، أمام محاكم عادلة.
عُذب
وشُتم وذُبح الناس في صبرا وشاتيلا ليلا، وبصمت، بأيدي ميليشيا الكتائب اللبنانية،
وقوات سعد حداد، تحت الأضواء الإسرائيلية، وأعينهم، لكن الليل، والجرافات،
والحصار، ومنع الصحافة، والتكتم، لم يمنع الجريمة من أن تنطق، وتُشير بوضوح
للقتلة، ولم تمنع شمس النهار في الأيام التالية من إخفاء جثامين الشهداء التي
انتشرت قهرا في الأزقة، والشوارع، حتى تلك التي طُمرت تحت التراب، والردم خرجت
لتعلن عن نفسها.