Adbox

مؤسسة الدراسات الفلسطينيةأثار الصحافي دافيد هيرست في مقالته المنشورة في صحيفة "Middle east eye" الإلكترونية، في 23 تشرين الأول/أكتوبر، والتي وضعها تحت عنوان "الإبادة في غزة: نتنياهو ينهي المهمة والعالم يراقب"،[1]  مسألة مهمة جداً في مقارنته بين إحدى أبشع مذابح القرن العشرين؛ مذبحة سربرنيتسا التي ارتكبها الصربيون سنة 1995 بحق أبناء البوسنة، والمذابح التي يرتكبها الإسرائيليون يومياً في مخيم جباليا شمالي غزة. وتضمنت المقالة تفاصيل مؤلمة عن المذبحة الأولى، تقابلها تفاصيل أكثر إيلاماً عما يجري في جباليا.

وفي المذبحتين، تتشابه الأساليب: الحصار والتجويع، والقتل الجماعي، والتهجير القسري، والتطهير العرقي. إنه الإجرام نفسه، وسياسة القتل الممنهج نفسها.

فعندما دخل الجيش الصربي سربرنيتسا بقيادة الجنرال ملاديتش، تم نقل آلاف اللاجئين إلى المركز العسكري التابع للأمم المتحدة، حيث تم فصل الرجال عن النساء، ولاحقاً أقدم الصربيون على إعدامهم، "وتُركت جثثهم ملقاة في الحقول والمباني."

ويعتبر هيرست أن الأمر نفسه يتكرر حالياً؛ فـ "بعد ما يقرب ثلاثة عقود من الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، يحدث الأمر نفسه يومياً، إن لم يكن أسوأ، في مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة"، ويشير إلى عملية فصل الرجال عن النساء واقتياد الرجال إلى أماكن مجهولة، فيصبح مصيرهم مجهولاً، ويصف مشاهد الجثث المتناثرة في شوارع جباليا.

هنا يمكن أن يعتقد القارئ أن جيش الاحتلال الإسرائيلي ينفذ أساليب القتل الممنهج نفسها التي نفذها الصربيون سابقاً في سربرنيتسا، لكن العكس هو الصحيح، فالصربيون هم مَن نفذوا أساليب العصابات الصهيونية في مذابح تعود إلى حرب 1948، وهذا ما يذكره هيرست عندما يقول: "ما حدث في دير ياسين أو الطنطورة يحدث كل ليلة في شمال غزة." ويضيف: "كما حدث في سربرنيتسا، يُنقل الضحايا إلى مناطق آمنة، ثم يتم قتلهم."

وإذا كانت أهمية المقارنة تكمن في تسليط الضوء على مذابح تُرتكب يومياً في غزة منذ أكثر من سنة من دون أي مساءلة، فإن الأوضاع في الحالتين تتشابه وتختلف، وهنا ربما يكون من المفيد التوقف عند عدد من النقاط:

أولاً: نُفذت مذبحة سربرنيتسا خلال الحرب التي وقعت في يوغسلافيا سابقاً سنة 1992، والتي كانت إحدى نتائج نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكُك يوغوسلافيا التي كانت دولة اتحادية تضم ست جمهوريات، منها البوسنة والهرسك التي وقعت فيها المذبحة.

ثانياً: لم تسعَ الولايات المتحدة، التي تربعت على رأس النظام الدولي حينها، إلى وضع حد مباشر لهذه الحرب، إذ كانت لها مصلحة كبرى في تفكُك دول المنظومة الشرقية سابقاً إلى دويلات إثنية وعرقية متناحرة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى غزة، فالولايات المتحدة التي تقدّم دعماً غير مشروط إلى إسرائيل في حربها لا يبدو أنها تسعى لوقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الإسرائيليون هناك.

ثالثاً: إن المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا[2]  أُنشئت بتوافق دولي، وبقرار صادر عن مجلس الأمن، وبإرادة أميركية - أوروبية من دون معارضة أو استخدام للفيتو، بينما عجز مجلس الأمن على مدى أكثر من سنة على اندلاع الحرب على غزة عن اتخاذ قرار موحد بشأنها، والسبب وقوف الولايات المتحدة وحلفائها إلى جانب إسرائيل، واعتبار أن الأفعال الإجرامية التي تقوم بها هي دفاع عن النفس.

رابعاً: أحدثت مذبحة سربرنيتسا صدمة على الصعيد الدولي، وخصوصاً مع تقديرات أشارت إلى سقوط أكثر من 8000 ضحية دُفن معظمها في مقابر جماعية، وهو ما أدى إلى توافق على ضرورة محاسبة المجرمين، بينما اختلف الأمر في غزة؛ إذ بعد سقوط أكثر من 40,000 شهيد، لم يتحرك المجتمع الدولي لمساءلة مرتكبي هذه المذابح، وجاء التحرك الوحيد عبر دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. لكن هذه المحكمة، على الرغم من كل الإثباتات والأدلة التي قُدمت إليها، فإنها لم توجه اتهاماً مباشراً إلى إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، كما أن المحكمة الجنائية الدولية التي طلبت إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين لم تتمكن من تنفيذ هذا الطلب، وهنا يذكر هيرست أن خمسة أشهر مرت منذ أن طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، لكن ذلك لم يحدث، وتبدو هذه المحكمة مشلولة تماماً بينما تُرتكب جرائم الحرب يومياً، و"بدلاً من مواجهة مذكرة اعتقال، ينحني نتنياهو أمام تصفيق عام."

ومن المهم هنا الإشارة إلى ما ورد على لسان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، عن تعرضه لضغوط من قادة دول لمنعه من إصدار مذكرة اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ووزير حربه غالانت،[3]  وأظهر خان انزعاجه من الأمر قبل أيام متسائلاً: "هل يجب أن أنتظر حتى يموت الجميع؟"، مؤكداً أن المسؤولين الإسرائيليين ليسوا فوق القانون الدولي.[4]

خامساً: في نيسان/أبريل 1993، أعلنت الأمم المتحدة سربرنيتسا منطقة آمنة خالية من الهجمات المسلحة، إذ رابطت قوة حفظ سلام هولندية في المنطقة، وعليه، فقد التجأ المدنيون إليها يحتمون بالقوات الدولية، لكن الجيش الصربي حاصر المدينة ودخلها وارتكب المذبحة من دون أن تمنعهم القوة الهولندية. وعلى المنوال نفسه تجري الأمور في غزة، ففي كل مرة يتوجه الفلسطينيون إلى مناطق يعلنها جيش الاحتلال آمنة، فتُقصف هذه المناطق بوحشية لا مثيل لها، ومنها مقرات تابعة للأمم المتحدة، ويسقط عشرات الشهداء.

سادساً: في الحالتين بدا دور الأمم المتحدة ضعيفاً، إذ لم يحترم الصربيون وجود قوات حفظ سلام دولية في سربرنيتسا، وفي المقابل، لم تكتفِ إسرائيل بتهميش دور الأمم المتحدة في قطاع غزة، بل أيضاً وضعت مسؤوليها، وعلى رأسهم أمينها العام، في دائرة الاتهام، وطالبت بإقالته من منصبه، في تحدٍ مباشر وسافر للهيئة التي تمثل المجتمع الدولي، ووقف ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة وعلى منبر الجمعية العامة ممزقاً ميثاقها، في تصرف استفزازي على مرأى من العالم.

وفي شباط/فبراير 2007، اعتبرت محكمة العدل الدولية أن المذابح التي تعرض لها مسلمو البوسنة في مدينة سربرنيتسا تمثل إبادة جماعية، إلاّ إنها لا تستطيع تأكيد مسؤولية صربيا عنها، وطالبت المحكمة صربيا بتسليم ميلاديتش وغيره من المتهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولاحقاً، تم تقديم المتهمين إلى المحاكمة في خطوة اعتُبرت تحقيقاً للعدالة الدولية.

سابعاً: في أيار/مايو 2024، أقرت الجمعية العامة قراراً باعتبار تاريخ 11 تموز/يوليو يوماً دولياً للتفكر في الإبادة الجماعية التي وقعت في سربرنيتسا، وطلبت من الأمين العام إنشاء برامج توعية بشأن هذه الإبادة.[5]  فهل ستنتظر غزة 30 عاماً أُخرى كي تساوي الأمم المتحدة بينها وبين سربرنيتسا؟

لقد أصاب هيرست في قوله: "أشك في أن نتنياهو وغالانت وكل من ارتكب هذه الإبادة الجماعية سيمثلون أمام العدالة في حياتهم."

ومما ورد، يبدو واضحاً أن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية كبرى عن عدم مساءلة أو إدانة جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الإسرائيليون، وعلى رأسهم رئيس الحكومة ووزراؤه. فكيف لهذا المجتمع الذي أقر بالإجماع جريمة الإبادة الجماعية في سربرنيتسا وحاكم مرتكبيها أن يصمت إزاء جريمة إبادة أفظع وأكثر همجية تجري منذ أكثر من عام، وخصوصاً ما يجري في جباليا حالياً؟

وتحمل الإجابة عن هذا التساؤل إدانة للمجتمع الدولي نفسه، الذي يراعي بمعظمه الولايات المتحدة، ويسعى للمحافظة على مصالحه معها، وهي بدورها تؤمّن مظلة حماية بصورة مطلقة لإسرائيل، وهو ما أطلق يد الإسرائيليين في جرائمهم غير آبهين لأصوات تنتقد أو تستنكر أو تدين.

ربما كان من الأفضل أن يتساءل هيرست: "متى نشهد نهاية ازدواجية المعايير فيما يتعلق بعمليات الإبادة في العالم؟ ومتى يدين المجتمع الدولي جرائم إسرائيل في قطاع غزة؟"

الإجابة حالياً: "في إسرائيل، انتصرت ثقافة الإبادة الجماعية، وتريد حرباً لا نهاية لها"، وأن "نتنياهو ينهي المهمة والعالم يراقب."

 

[1] David Hearst, “Gaza extermination: Netanyahu is ‘finishing the job' while the World Watches”, The Middle East Eye, 23/10/2024.

[2] "النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة"، الأمم المتحدة. 

[3] "المدعي العام للجنائية الدولية: أتعرض لضغوط وتحذيرات لعدم إصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو"، "عربي 21"، 4/9/2024. 

[4] "كريم خان عن طلب اعتقال نتنياهو: هل عليّ الانتظار حتى يموت الجميع"، "عربي 21"، 5/11/2024.

[5] "اليوم الدولي للتفكر في الإبادة الجماعية التي وقعت في سريبرنتسا في عام 1995 وإحياء ذكراها"، موقع الأمم المتحدة.


بقلم: رامي الريس

أحدث أقدم