العربي الجديد - تشير آخر التقارير الميدانية، بما في ذلك تقارير صادرة عن مصادر إسرائيلية، إلى أن ما يحدث في أراضي الضفّة الغربية في الفترة الأخيرة يثبت أن الضمّ بدأ فعلاً منذ زمن، فالعصابات الاستيطانية تضع كرافانات وأكواخًا غير قانونية على بُعد مترين من كروم الزيتون الفلسطينية فقط، ثمّ تزعم أن جني الزيتون يهدّدها، وأنّ "حقّها الإلهي" يبيح لها مهاجمة المزارعين وسفك دمائهم. أمّا دولة الاحتلال، فتحكم على سكان الأراضي المحتلة منذ 1967 بمصير أنّهم رعايا بلا حقوق. ومثل ما ورد في أحد التقارير الإسرائيلية، فكل بئر مياه، أو سوق شعبية، أو جولة منظّمة في المنطقة المصنّفة (ج)، تُعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.
كشفت مراسلة صحيفة هآرتس في الضفّة الغربية عميره هس النقاب عن أن هناك تهجيرًا صامتًا للفلسطينيين في ما يسمى بـ"منطقة التماس"، وهي مساحة شاسعة تبلغ نحو 320 ألف دونم، تقع بين جدار الفصل الذي شُيّد عميقًا داخل الضفّة الغربية وبين الخط الأخضر، وهي منطقة مفتوحة أمام الإسرائيليين، ومغلقة أمام الفلسطينيين. فالإسرائيليون أحرار في التجوّل فيها كيفما يشاؤون، وفي تطوير مستوطناتهم التي تُعتبر غير قانونية وفق القانون الدولي. أمّا سكان الأرض التي احتُلت عام 1967، فهذه منطقتهم الطبيعية، المُبعدة عنهم. خلال العامين الأخيرين، حصلت قلة قليلة من المزارعين الفلسطينيين من القرى الواقعة بين قلقيلية ويعبد على تصاريح لدخول أراضيهم هناك، وبعد طلبات التماس قُدمت من "مركز الدفاع عن حقوق الفرد"، مُنح بعضهم تصاريح ليومين، أو ثلاثة، لجني محاصيل الزيتون، وندموا على ذهابهم؛ إذ فُطِرت قلوبهم حزنًا على أشجار الزيتون اليابسة والخراب الذي حلّ بأراضيهم.
بلغة المعطيات المستجدة لا بدّ من أن نشير إلى أنه بموجب التقارير الإعلامية الإسرائيلية هناك اليوم أكثر من 120 مزرعة استيطانية غير قانونية في أنحاء الضفّة الغربية، هدفها الأساسي "الاستيطان في أراضي الدولة"، ووقف البناء الفلسطيني "غير القانوني".
وفقًا لمنظّمة "كرم نابوت" (منظّمة إسرائيلية غير حكومية تأسست عام 2012، وتهتم بنشر المعلومات الدقيقة عن المشروع الاستيطاني ونهب الأراضي في الضفّة الغربية)، تم طرد نحو 60 تجمّعًا فلسطينيًا منذ عام 2022، 44 منهم منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، بحسب منظمة "بتسيلم".
وأظهر تحقيق مشترك لمنظمة "كرم نابوت" وحركة "السلام الآن" أن العصابات الاستيطانية المنضوية ضمن جماعات "شبيبة التلال" استولت وحدها على نحو 800 ألف دونم من أراضي الضفّة، حتّى نهاية عام 2024.
وسبق لكاتب هذه السطور أن أشار إلى أنه منذ تولي الحكومة الإسرائيلية الحالية مقاليد الحُكم (نهاية 2022) تشهد الضفّة الغربية أكبر حركة استيطان فيها منذ بدايات حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية عام 1974. كذلك أشرنا إلى أنه فور توقيع الاتّفاقيات الائتلافية بين حزب الليكود وأحزاب "الصهيونية الدينية" بزعامة بتسلئيل سموتريتش، و"عوتسما يهوديت" ("قوة يهودية") بزعامة إيتمار بن غفير، أشير في أبرز عناوين وسائل الإعلام الاسرائيلية إلى تداعيات هذه الاتّفاقيات على راهن مشروع الاستيطان الإسرائيلي في أراضي 1967، الذي يعوّل عليه اليمين المتطرف لدفن ما يسمى بـ"حلّ الدولتين"، بادعاء أن هذا الحلّ يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، وكذلك تمهيدًا لضمّ ما يعرف بمناطق (ج) في الضفّة الغربية إلى إسرائيل، وحصر نفوذ السلطة الفلسطينية التي تجسّد "الحكم الذاتي الفلسطيني" في مناطق (أ) و (ب). وقد وقعت هذه الاتّفاقيات في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2022، وفي يوم الـ28 من الشهر نفسه، وضع رئيس الحكومة الإسرائيلية المُكلّف، نتنياهو، لمسات أخيرة على ائتلافه المُكوّن من أحزاب تيارات الصهيونية الدينية المذكورة، وأحزاب اليهود الحريديم المتشددين دينيًا، إذ حدّدَ الخطوط الأساسية التوجيهية للحكومة التي تشدّد، من بين أمور أخرى، على "حقّ الشعب اليهودي الحصري وغير القابل للتصرّف في جميع أنحاء أرض إسرائيل"، وتشمل تعهّدات بتعزيز الاستيطان في "الجليل والنقب والجولان ويهودا والسامرة (الضفّة الغربية)". وغداة ذلك اليوم، أدّت الحكومة الإسرائيلية الجديدة اليمين القانوني في الكنيست.
في الاتّفاقيتين الائتلافيتين المنفصلتين مع حزبي "الصهيونية الدينية"، و"عوتسما يهوديت" التزم حزب الليكود من حيث المبدأ، بفرض السيادة الإسرائيلية على مناطق يهودا والسامرة، مع مراعاة اعتبارات رئيس الحكومة في ما يتعلق بـ"التوقيت"، و"تقييم المصالح الوطنية والدولية لإسرائيل". وفي هذا الاتّفاق، تعهّد نتنياهو أيضًا بشرعنة البؤر الاستيطانية التي تعتبرها الحكومة الإسرائيلية حاليًا غير قانونية.
كان ثمّة إجماع لدى مؤسسات حقوق الإنسان الإسرائيلية على أنّ الاتّفاقية الائتلافية بين الليكود وحزب "الصهيونية الدينية" تنطوي على أبعاد بعيدة المدى في كلّ ما يتعلّق بالاحتلال الإسرائيلي في أراضي 1967، بما في ذلك جعل القانون الإسرائيلي ساريًا على المستوطنين، وتعميق الفوقية اليهودية في الضفّة الغربية التي ترسّخ نظام الأبارتهايد.
وتنصّب الاتّفاقية رئيس "الصهيونية الدينية" سموتريتش حاكمًا شبه مطلق في كلّ ما يرتبط بالضفّة الغربية، وتتسبّب في تحييد كلّ التوازنات والكوابح القليلة القائمة، التي تهدف إلى الدفاع عن حقوق الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال الإسرائيلي. وكي يتنصّل رئيس الحكومة من حملات النقد التي قد يجرّها مجرّد تعيين سموتريتش وزيرًا للدفاع- كما طالب- فقد التجأ إلى سحب ما يعرف بصلاحيات وزير الدفاع المتعلقة بالمستوطنين الإسرائيليين في أراضي 1967 ونقلها إلى حزب "الصهيونية الدينية"، بما من شأنه أن يخدم أجندة ضمّ تلك الأراضي.
ويكفي لتقديم نموذج على ما نقصد أن نتوقف عند قرارين اتخذتهما الحكومة الإسرائيلية بهذا الشأن خلال الفترة القصيرة التي انقضت منذ بداية ولايتها القانونية في أواخر 2022، هما:
القرار الأول هو ذلك الذي صادقت عليه الحكومة في 2023/6/18 وينص، عمليًا، على منح سموتريتش، بصفته يشغل أيضًا منصب وزير ثانٍ في وزارة الدفاع، السيطرة الكاملة على الموافقة على تخطيط أعمال البناء في مستوطنات الضفّة الغربية. ووفقًا للقرار الجديد، وهو تعديل لقرار حكومي صدر عام 1996، سيتم تقليص مراحل المصادقة العديدة، التي كانت مطلوبة حتّى الآن من وزير الدفاع للموافقة على المخططات الرئيسية لتخصيص الأراضي، إلى موافقة واحدة مطلوبة فقط، وستأتي هذه الموافقة الآن من سموتريتش في دوره الثانوي وزيرًا في وزارة الدفاع.
وأشاد زعماء المستوطنات بسموتريتش ونتنياهو لدفعهما بهذا التغيير قدمًا والموافقة عليه، ورحبوا بعملية المصادقة، وأكّدوا أنّها ستجعل الموافقة على التخطيط في الضفّة الغربية روتينية، وأشبه بالتخطيط داخل "الخط الأخضر". في المقابل شجبت مجموعات معارضة للاستيطان القرار، وأكّدت أنّه يشكّل ضمًّا فعليًا للضفّة، وسيسمح بتوسيع المستوطنات من دون رادع. وقالت حركة "السلام الآن" إن هذا القرار سياسي ويهدف إلى القضاء على "حلّ الدولتَين"، وأكّدت أنّ إسرائيل تتجه نحو الضمّ الكامل للضفّة، ولا تنوي السماح لأيّ اعتبارات أمنية أو دبلوماسية بأنّ تمنع ذلك.
أمّا القرار الثاني فهو مصادقة الكنيست الإسرائيلي في 2023/3/21 بالقراءتين الثانية والثالثة على إلغاء بنود من "قانون الانفصال [فك الارتباط] عن قطاع غزّة وشمال الضفّة الغربية" الذي جرى سنّه عام 2005، وهو ما يمهّد لإعادة إقامة أربع مستوطنات في شمال الضفّة أُخليت قبل 18 عامًا. ويلغي القانون قرار الانفصال عن مستوطنات "غانيم" و"كديم" و"حوميش" و"سانور"، التي تم تفكيكها عام 2005، وينص على إلغاء العقاب الجنائي المفروض على المستوطنين الذين يدخلون إلى هذه المستوطنات، أو يقيمون فيها. وكان إلغاء هذه البنود جزءًا من الشروط التي وضعتها أحزاب اليمين الدينيّ المتطرف لقاء الانضمام إلى ائتلاف حكومة نتنياهو الحالية. وجاءت مصادقة الكنيست بعد أن وافقت الحكومة على شرعنة تسع بؤر استيطانية غير قانونية، وعقب مصادقتها على خطط بناء أكثر من 7 آلاف وحدةٍ سكنيةٍ جديدةٍ في المستوطنات.
عند هذا الحدّ، ينبغي القول إن حزب الليكود نفسه يبدو جاهزًا تمامًا، ومنذ فترة طويلة، لاتخاذ خطوة مثل هذه حتّى من دون اشتراطها من طرف أحزاب اليمين الدينيّ المتطرف. ولعل من أقرب الدلائل على هذه الجهوزيّة، مصادقة مركز هذا الحزب بالإجماع في نهاية عام 2017 على فرض "السيادة الإسرائيلية على مناطق المستوطنات اليهودية في يهودا والسامرة". ففي إثر تلك المصادقة، قال رئيس مركز الحزب الوزير حاييم كاتس إن هذه المناطق هي جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل، وستظلّ تحت سيادة دولة إسرائيل إلى أبد الآبدين. وشارك في جلسة المركز آنذاك أغلبية وزراء الليكود، لكن تغييب عنها رئيس الحكومة نتنياهو. وقال الوزير جلعاد إردان في حينه إن هناك الآن رئيسًا أميركيًا (دونالد ترامب) يدرك بكل جلاء أن الاستيطان اليهودي في أراضي 1967 ليس عقبة أمام السلام، بل إن العقبة كامنة في الرفض والتحريض الفلسطينييْن، ودعا إلى عدم تفويت هذه الفرصة. وأشاد حزب "البيت اليهودي" بهذا القرار، كما أشاد به رئيس الكنيست في ذلك الوقت يولي إدلشتاين مشيرًا إلى أن إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل هو "بداية حقبة جديدة في تاريخ الصراع مع الفلسطينيين".
في مايو/أيار 2024، قررت الحكومة الإسرائيلية نقل السيطرة على إدارة مناطق الضفّة من الجيش إلى المستوطنين، من خلال تعيين نائب لرئيس الإدارة المدنية يكون تابعًا لوزير المال الإسرائيلي سموتريتش، الذي هو وزير ثان في وزارة الدفاع، وينطوي ذلك على ما يمكن اعتباره بمثابة انتقال من حالة الاحتلال العسكري المؤقت إلى حالة ضمّ مدني دائم. فبهذا التعيين سيسيطر المستوطنون سيطرةً تامةً على مسائل البناء في المستوطنات، وعلى مسألة هدم منازل الفلسطينيين، إلى جانب ضمان مبالغ هائلة من الميزانية الأمنية لحراسة المستوطنات. والهدف من هذه الخطوة، حسب ما أعلن سموتريتش نفسه، هو إحباط فرصة إقامة دولة فلسطينية بصورة نهائية. وفي تسجيل نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية (نهاية يوليو/تموز 2024) قال سموتريتش: "إن هذا الأمر هائل جدًا. ومثلُ هذه التغييرات سوف تغيّر الشيفرة الوراثية للنظام"، كما أكّد أن رئيس الحكومة نتنياهو على عِلم بالخطة، ويتعاون معها بصورة تامة.
وبموجب ما تؤكّد بعض تلك الجهات القانونيّة (ومنها منظمتا "يش دين (يوجد قانون)" وجمعية حقوق المواطن)، ينظّم القانون الدولي وضع الاحتلال بصفته إدارة موقتة للأراضي من جانب قوّة الاحتلال، ويمنع منعًا باتًا الضمّ من طرف واحد. وهذا ليس مجرد حظر، بل قاعدة مركزية، الهدف منها منع استخدام القوّة، إلّا من أجل الدفاع عن النفس. وإذا أمسى من الواضح أنه لا يمكن تحقيق السيادة بواسطة القوّة فستقلّ الحوافز على الحروب. المقصود هنا مبدأ هو جزء أساسي من نظام عالمي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وجوهره كبح الحروب. والهدف من القانون الذي يدعو إلى إدارة أراضٍ محتلة من جانب حكم عسكري، وليس مباشرة من حكومة الاحتلال، هو وضع حاجز معيّن بين مواطني دولة الاحتلال وبين السلطة في الأراضي المحتلة. ويستند هذا الترتيب إلى فهم مفاده أن الجيش أقل التزامًا بالاعتبارات السياسية من وزارات حكومة منتخبة وملزمة بها. غير أن نقل صلاحيات الحاكم العسكري إلى موظفين من حكومة الاحتلال ونوابها يخلق سيطرة مباشرة لمواطني دولة الاحتلال على الأراضي المحتلة، وعمليًا يوسع الخطوط السيادية إلى داخل المناطق المحتلة، أي الضمّ. وهذا ما نجح سموتريتش فيه، فلقد أبعد الجيش تمامًا عن عملية اتخاذ القرارات بشأن كل ما ليس له علاقة مباشرة بالأمن في الضفّة، وعمليًا بدأ بتطبيق السيادة الإسرائيلية على الضفّة، أي الضمّ. وستكون لذلك تداعيات على حقوق الفلسطينيين لأن القيود التّي فرضها الجيش للحؤول دون نهب أراضي الفلسطينيين وإيذائهم ستزول الآن، وهي بالطبع قليلة جدًا.
في 2025/7/23 صوّتت هيئة الكنيست العامة لصالح إعلان يدعو الحكومة إلى تطبيق السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة وغور الأردن. وجاء ذلك ضمن نقاش قررت الكنيست إدراجه في جدول أعمالها، حول موضوع "تطبيق السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة وغور الأردن"، الذي بادر إليه أعضاء الكنيست سيمحا روتمان ("الصهيونية الدينية")، وليمور سون هار ميلخ ("عوتسما يهوديت")، ودان إيلوز (الليكود). وصوت 71 عضوًا في الكنيست لصالح الإعلان، في مقابل معارضة 13 عضوًا. هذه أبرز وقائع الضمّ، ولا تنتهي القائمة هنا.
