العربي الجديد - يُجبر أهالي المناطق الشرقية من حي الشجاعية في مدينة غزة، والذين بات يطلق عليهم محلياً "جيران الخط الأصفر"، على البقاء هناك نتيجة غياب البدائل، وانعدام أماكن الإيواء في مناطق غربي القطاع.
يعيش آلاف الفلسطينيين على أعتاب الخطر، مهددين بالموت في أي لحظة كونهم يسكنون قرب ما بات يعرف بـ"الخط الأصفر"، والذي يقسم قطاع غزة إلى نصفين، فهم أول من يستقبلون الرصاص العشوائي الذي تطلقه آليات الاحتلال الإسرائيلي، والذي لم يتوقف منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار قبل نحو شهرين، ما يجعلهم مضطرين لتمضية أيامهم في رعب متواصل.
وقبل يومين، شن جيش الاحتلال غارات واسعة على أنحاء متفرقة من قطاع غزة، أسفرت عن استشهاد 22 فلسطينياً، ليكتشف الأهالي في الصباح أن الاحتلال أزاح المكعبات الصفراء نحو 300 متر أخرى، ما أدى إلى إجبارهم على موجة نزوح جديدة تحت النار.
ورغم كل هذه الظروف الخطرة، خاصة لمن يعيشون على مقربة من مواقع جيش الاحتلال المستحدثة، والتي تكرر القصف المكثف تجاه المناطق المحاذية للمكعبات الأسمنتية الصفراء، فإن البدائل تبدو معدومةً أمام الأهالي، وفكرة النزوح غير مطروحة لأسباب تتعلق بالكلفة الكبيرة للنزوح جنوباً، وعدم توفر أماكن إيواء في مدينة غزة.
ولم يتوقف القصف ونسف المربعات السكنية في مناطق سيطرة الاحتلال داخل ما يعرف بـ"الخط الأحمر" منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، إذ تسجل يومياً خروق إسرائيلية متعددة، تشمل استهداف السكان الفلسطينيين، وتكرار القصف الجوي والمدفعي للشوارع والأحياء.
يعيش الفلسطيني محسن حسونة وعائلته داخل محل تجاري يقع أسفل بيت مدمر قرب سوق الشجاعية شرقي مدينة غزة، في آخر نقطة سكنية بمحاذاة المكعبات الأسمنتية الصفراء التي تبعد عن المحل التجاري الذي يؤوي العائلة نحو 150 متراً فقط. في الشارع لا يظهر الكثير من معالم الحياة، بينما ما زال يسكنه البعض، وهو قريب من متنزه الشجاعية الذي تحول إلى مخيم إيواء تسكنه عشرات العائلات.
ولا تفارق طائرات جيش الاحتلال بدون طيار ومسيّرات "كواد كابتر" سماء المنطقة، كما لا تتوقف أصوات الانفجارات الناتجة عن نسف المباني داخل المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال، مع تكرار إطلاق النار التمشيطي تجاه مناطق حي الشجاعية، والذي نزحت غالبية العائلات التي كانت تقيم فيها خلال الأيام الماضية بفعل توسعة الخط الأصفر.
يقول حسونة لـ"العربي الجديد" فيما يجلس أبناؤه الثمانية حوله: "كنا نبعد نحو 500 متر عن المربعات الصفراء، والآن لا نبعد سوى 150 متراً فقط. أعيش بالمحل الذي كنت أعمل فيه سابقاً عندما كانت هناك حياة وسوق، بينما باتت المنطقة مهجورة، والحياة فيها شبه معدومة. نعيش منذ أربعة أيام في رعب شديد، وكل ليلة لا نتوقع أن يطلع علينا الصباح، وقد استشهدت جارة لنا من عائلة الصواف من جراء إطلاق نار عشوائي قبل أيام. جلب الطعام صعب للغاية، وكذلك المياه، ونضطر للذهاب إلى شارع عمر المختار لإحضار الطعام من تكية خيرية توزعه كل يومين، فضلاً عن ترشيد استهلاك المياه".
قبل عدة أيام، وفيما كانت زوجة حسونة تطهو الطعام على الحطب، حلّقت طائرة "كواد كابتر" على ارتفاع منخفض، وسكبت الماء تجاه الموقد، وتعلّق الزوجة على الحادثة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي قائلة: "لم أعرف في البداية ماذا سكبت الطائرة، وما نوع تلك المادة السائلة، هل هي مياه أم شيء آخر، لكنني فهمت أنها إشارة إلى طلب المغادرة. تكرر قيام المسيرات بحركات مرعبة للأطفال، وأحياناً تلقي منشورات تطالبنا بالمغادرة".
ومع حلول المساء، يتحول المكان إلى منطقة أشباح، إذ يكثف الاحتلال إطلاق زخات من الرصاص التمشيطي، مع حركة آليات لا تتوقف، يتجه حسونة بنظره نحو الشارع الفارغ من أي حركة، ويقول: "الوضع مرعب نهاراً، ومع حلول المساء ندخل إلى المحل، ونغلق الباب على أنفسنا، ولا نستطيع الخروج حتى إلى المرحاض، فأي حركة في الليل تجعلنا عرضة للاستهداف المباشر. لا نملك القدرة على النزوح، ولا يتوفر مكان لنصب خيمة في مناطق غرب غزة، ما يجعلنا مجبرين على البقاء".
على مسافة نحو 50 متراً إلى الخلف، تسكن نحو 100 عائلة في أقرب مخيم إيواء لـ"الخط الأصفر"، وهو مخيم مكشوف تماماً لموقع عسكري إسرائيلي يقع على جبل المنطار، ويظهر لسكانه بوضوح وجود رافعات تراقب كل حركة في المخيم وكامل الحي، وإلى جوار الموقع العسكري، يظهر موقع مستحدَث يعتقد الأهالي أنه يعود لمليشيا محلية مدعومة من الاحتلال.
يسكن الفلسطيني أحمد الرملاوي في إحدى خيام الإيواء، وقبل عدة أيام أصيب مع زوجته وعدداً من سكان الخيام المجاورة نتيجة قصف إسرائيلي استهدف أربعة مواطنين على مفترق الشجاعية الذي لا يبعد عن خيمته سوى عشرات الأمتار. ويروي لـ "العربي الجديد": "كنت جالساً، وفجأة حدث انفجار على المفترق، فشعرت بوجود ألم، وبعدها نزفت، ثم سمعت صراخ زوجتي وأولادي داخل الخيمة، فذهبت إليهم، ووجدتهم أيضاً مصابين، كما أصيب أفراد من ثلاث عائلات تسكن بجوارنا".
من مكان الخيمة يستطيع الرملاوي رؤية منزله الذي يبعد 150 متراً، ويؤكد: "جئنا إلى المخيم كي نبتعد عن المكعبات الصفراء، وعن الاحتكاك مع جيش الاحتلال، لكن الاحتلال يحاول طردنا من المكان عبر الاستهداف المتكرر، وتنغيص حياتنا، وتحويل المكان إلى منطقة مرعبة، خاصة في الليل".
ومع تكرار القصف واقتراب آليات الاحتلال، فكرت العائلة بالنزوح، ويحكي الرملاوي فيما يجلس أمام خيمته: "القصف متكرر وكثيف، لذا اقترحت على الأولاد المغادرة، وأبدوا استعداداً، لكننا غيرنا رأينا بعدما انتهت فترة التمشيط وتراجعت الآليات. الخطر لا يقتصر على جيش الاحتلال وحده، فهناك مليشيات محلية مدعومة من الاحتلال، ولديها قناصة، وموقع على تلة مرتفعة يطلقون من خلاله النار، كما أن لديهم مسيّرة كواد كابتر".
يقع مخيم إيواء آخر على منحدر مقابل للموقع العسكري الإسرائيلي المقام على "تلة المنطار"، وبفعل التدمير الهائل لحي الشجاعية، تبدو المسافة بين المخيم والموقع العسكري صغيرة، ما يزيد من خوف الأهالي.
يجلس الفلسطيني محمد الجرجاوي أمام الخيمة مع والده، فيما يلهو أطفاله الذين لا يأبهون بخطورة الواقع الذين يعيشونه، ويقول لـ"العربي الجديد": "المشهد على قسوته وخطورته أصبح مألوفاً، فالقصف لا يتوقف، على عكس ما يشعر به زائر جديد للمنطقة الذي يستغرب من وجود حياة بين كل هذا القصف والنسف الذي لا يتوقف. لم نشعر بأن هناك اتفاق وقف إطلاق نار، فقبل أيام قليلة سقطت قنبلة إلى جوارنا، وقبل أيام أيضاً قصفت طائرة مسيرة المفرق بصاروخ، وفي نفس الليلة سقطت خمس قذائف قرب الناحية الشرقية للمخيم، وشعرنا من شدة الانفجارات أن المخيم هو المستهدف. هذه الوتيرة من التصعيد زادت منذ إزاحة المكعبات الصفراء".
ويرسم الجرجاوي صورة للواقع: "نشعر بأن أصوات الآليات قريب، إذ نسمعه بوضوح، ونسمع أصوات آليات التجريف، ونرى أضواء الآليات والدخان. كل ذلك نراه، لكننا لا نستطيع ترك المنطقة لأن بيوتنا قريبة، ونترقب بدأ المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي يمكن أن ينسحب فيها جيش الاحتلال، كي نعود إلى منازلنا".
ويتابع: "لا يوجد شخص هنا لا يضع يده على قلبه، فأمامك رافعة تراقبك، وموقع لجيش الاحتلال على جبل المنطار. نعيش في بيئة خطرة، لكننا نحاول التأقلم. الحركة في المساء تصبح شبه معدومة، ومن يتحرك يعرض حياته للخطر، ونسمع أصوات النار الكثيف والعشوائي في أوقات مختلفة، وأحياناً يتطاير الرصاص فوق الخيام أو بمحاذاتها".
وفي هذا المخيم، تعيش العائلات في خيام لا تقيها الأمطار أو البرد القارس، وخلال المنخفض الجوي الأخير الذي تأثر به قطاع غزة، غرقت معظم الخيام بفعل وقوع المخيم على منحدر يجعل المياه تندفع نحو خيامه، وبدت فكرة المغادرة أمراً ملحاً بعد زيادة الصعوبات عقب توسعة الخط الأصفر، لكن لا يملك الأهالي الانتقال إلى مكان آخر، إذ لا توجد أماكن فارغة في غربي المدينة.
