Adbox

بقلم: ديفيد شولمان*
جريدة الأيام -ترجمة عن «نيويورك تايمز ريفيو أوف بوكس» شهد الأسبوع الماضي حدوث شيء غير طبيعي في القرية البدوية الفلسطينية، الخان الأحمر، الواقعة على المشارف الشرقية للقدس، بجوار الطريق الرئيسية الذاهبة جنوباً إلى أريحا والبحر الميت. أولاً، ثمة حقيقة لا تصدق، هي أن القرية لا تزال موجودة بعد أشهر من انتظار وصول جرافات الجيش الإسرائيلي، يوماً بعد يوم، لتقوم بهدمها. لكن الأكثر إدهاشاً هو حقيقة أن المئات من الناشطين –الفلسطينيين، والإسرائيليين، وبعض الناشطين الدوليين- واجهوا على مدى عدة أيام جنود إسرائيل المدججين بالسلاح وشرطة مكافحة الشعب، غير المعروفين بطرقهم اللطيفة، وانتصروا، في الوقت الحالي على الأقل. فقد تم تأجيل الهدم الوشيك لكامل الموقع والطرد العنيف لسكانه الآن بعض الأسابيع، وفقاً لقرار مجلس الوزراء الإسرائيلي يوم 21 تشرين الأول الماضي.
بل إن هناك فرصة، مهما بدت ضئيلة، لنقل بدو الخان الأحمر في نهاية المطاف إلى موقع يقع على بعد بضع ياردات من مكانهم الحالي، وفقاً للخطة التي اقترحوها هم أنفسهم، قبل وقت طويل، على السلطات الإسرائيلية التي رفضتها في ذلك الوقت فوراً ومن دون أي تفكير. في بعض الأحيان، يحدث أن يصبح مكان معين، مثل هذه التلة الصخرية، ميدان معركة بين منظومات القيمة والقوى المتعارضة، والتي يدرك كل منها ما هو الذي على المحك بالضبط. وبالنسبة لليمين الإسرائيلي، يشكل بدو الخان الأحمر واحداً من العوائق الأخيرة أمام برنامج بعيد المدى لضم الأراضي الفلسطينية. كما أن هؤلاء البدو الفلسطينيين ينطوون أيضاً على عيب لا سبيل إلى تقويمه، هو أنهم ليسوا يهوداً في دولة يهودية قائمة على مبادئ عرقية-قومية إقصائية.
لكن القصة بدأت حقاً في العام 1953، عندما قام جيش دولة إسرائيل الناشئة حديثاً بطرد بدو الجهالين من موطنهم الأصلي في صحراء النقب. وقد تجولت القبيلة شمالاً إلى ما كان في ذلك الوقت الأردن، بالتحديد، إلى التلال الرملية والأودية الصخرية الواقعة مباشرة إلى الشرق من القدس. وكانوا لا يزالون هناك، يقيمون في الخيام ويرعون أغنامهم وخرافهم، عندما احتلت إسرائيل كامل الضفة الغربية بعد حرب حزيران 1967. في البداية، تُرك الجهالين لشأنهم إلى حد كبير. ولكن، مع إنشاء الضاحية الاستيطانية الإسرائيلية الكبيرة، معاليه أدوميم، في أواسط السبعينيات، ولاحقاً المدار الاستيطاني المكون من مستوطنات كفار أدوميم (1979)، ونوفي برات (1992)، وآلون (1990)، شرع فرع أبو داهوك من قبيلة بدو الجاهلين في فقدان الوصول إلى معظم مراعيهم. وهم لا يزالون في موقعهم الحالي، قرية الخان الأحمر، الواقعة بشكل رئيس على أراض ذات ملكية خاصة، والتي أجرها لهم فلسطينيون من بلدة عناتا القريبة، منذ السبعينيات، على الأقل، كما تُظهر الصور الجوية. وحتى قبل ذلك، اعتدنا، زوجتي وأنا، على رؤيتهم هناك كل مرة ذهبنا فيها بالسيارة من القدس إلى أريحا.
وهو مكان قديم – يسمى «الخان الأحمر» بسبب الحجارة الحمراء التي تلون جوانب التلال - على طريق الحج القديمة من القدس إلى مكة وبالقرب من الموقع المفترض لحكاية «العهد الجديد» عن «السامري الصالح». والمكان مذكور في سفر يشوع. ويقع دير الراهب من القرن الخامس، القديس إيوثيميوس، في مكان قريب عبر الوادي فحسب. ومثل كل مكان آخر في إسرائيل-فلسطين، تنغمس الخان الأحمر في قدسية الأديان المتنافسة، أو المتكاملة في الأوقات الأفضل. لكن ما حدث هناك في السنوات الأخيرة تحت الحكم الإسرائيلي، هو سلسلة من تدنيس المقدسات.
أرادت الحكومات الإسرائيلية أن تطرد بدو الجاهلين، وأن تستولي على أراضيهم أيضاً من أجل بناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية. وقدم المستوطنون من «كفار أدوميم» التماساً إلى الحكومة والمحاكم الإسرائيلية لإزالة مجتمع جيرانهم الفلسطينيين، الذين يعتبرون خيامهم وقطعانهم مؤذية للعين؛ وكانت الحكومات الإسرائيلية اليمينية سعيدة للغاية بالسعي إلى تحقيق هذا الهدف (مع ذلك، من المهم ملاحظة أن مجموعة صغيرة من الإسرائيليين الذين يعيشون في مستوطنات «كفار أدوميم» و»معاليه أدوميم» وقفت إلى جانب بدو الخان الأحمر وعارضت إخلاءهم علناً). وظلت القضية في المحاكم الإسرائيلية المدنية لسنوات حتى 5 أيلول الماضي، عندما قررت محكمة العدل العليا بالإجماع، في عمل من الجُبن الأخلاقي الصارخ، أنه لا يوجد عائق قانوني أمام طرد هؤلاء الناس من منازلهم على الرغم من الملكية الفلسطينية الخاصة للأراضي المعنية. وقد أكد القرار على حكم سابق للمحكمة العليا (صادر في أيار)، يسمح للدولة بهدم منازل البدو الفلسطينيين وإعادة توطينهم بالقوة في أي مكان تشاء. صحيح أن خيام وأكواخ الخان الأحمر أقيمت من دون تصاريح بناء، وفي الحقيقة، ليست لدى الفلسطينيين الذين يعيشون في المنطقة (ج) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية المطلقة، أي فرصة فعلياً في الحصول على مثل هذه التصاريح. وتجدر أيضاً ملاحظة أن الجهالين كانوا يعيشون في الخيام في هذه المنطقة قبل وقت طويل من قيام إسرائيل باحتلالها.
ثمة مبرر واضح لعمليات الهدم والطرد المخطط لها، وهو هدف حاولت الحكومة الحالية بالكاد إخفاءه. إن الخان الأحمر هي بوابة ما يعرف بالمنطقة (إي-1)، القطعة الواسعة من الأرض الواقعة بين القدس وأريحا، والتي يريد اليمين الإسرائيلي ضمها إلى إسرائيل بحيث تقسم الضفة الغربية إلى قسمين واستبعاد الإمكانية النظرية الضئيلة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وحتى لا يظن أحد أن هذه الفكرة بعيدة المنال أو غير عملية، أصدر المستوطنون من مستوطنة «ألون» المجاورة بياناً يوم 9 تشرين الأول، عندما بدا أن البدو قد يذهبون قريباً. وتصور هؤلاء المستوطنون بسعادة مجموعة من «الرعاة اليهود» وهم يرعون قطعانهم الضخمة من «الخراف اليهودية» بدءاً مما توقعوا أن يكون الأرض التي تم إخلاؤها حديثاً والتي تمتد بعيداً إلى الشرق حتى مستوطنة «ميتسبي» أريحا، على مشارف مدينة أريحا.
من المهم فهم الطبيعة الحقيقية لهذه الحملة، التي يمكن تعريفها فقط بأنها محاولة شفافة للتطهير العرقي. وليس استهداف قرية الخان الأحمر، بسكانها الذين لا يزيدون على 180 نسمة، سوى البداية فقط. ويعيش 1.200 أو أكثر من بدو الجهالين في المحيط العام لهذا الموقع، ويمكنك أن تكون متأكداً من أنهم سيكونون التالين في الصف. وحتى تصبح الأمور أسوأ، تقرَّر إعادة توطين سكان الخان الأحمر قسراً في مكان يدعى ببساطة «الجبل»، المجاورة لمكب نفايات بلدية القدس. والجبل بيئة غير صحية وغير مناسبة مطلقاً للطريقة البدوية التقليدية في الحياة، والقائمة على الرعي. وترى الدولة أن هؤلاء الناس الذين تعاملهم وكأنهم قمامة يجب التخلص منها، وثقافتهم كلها، يشكلون حالة شاذة عديمة الفائدة، والتي تستحق التدمير.
حدث أنني تعرفت إلى بعض من سكان الخان الأحمر على مدى الأسابيع الماضية. وهم أناس متمسكون بأرضهم، يرفضون بثبات الانحناء أمام تهديدات الحكومة ومطالبها. وهم ملتزمون بإخلاص بأسلوب غاندي من المقاومة غير العنيفة في وجه قوة ساحقة. وهم ليسوا أقل التزاما بضرورة تعليم أبنائهم. وقبل بضع سنوات، بنى القرويون، بمساعدة من مجموعة «فينتو دي تيرا» الإيطالية، مدرسة صديقة للبيئة، مصنوعة من الطين والإطارات القديمة، أول مدرسة يحظى بها بدو الجهالين على الإطلاق. وحتى خلال هذه الأيام المتوترة، جاء الأولاد من المنطقة المجاورة الأوسع إلى المدرسة، بما في ذلك تلك الأيام حين كانت شرطة مكافحة الشغب تستخدم القوة هناك، وتواجه الاحتجاجات بالقمع، وتهيئ الطرق لقدوم الجرافات، وتهاجم في بعض الأحيان الآباء والأجداد بمسدسات الصعق، ورذاذ الفلفل والقنابل الصوتية. وقد وضع الفلسطينيون، إلى جانب ناشطين إسرائيليين ووزير من حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله، وليد عساف، أنفسهم في طريق الجرافات. وتم اعتقال بعضهم، وأصيب الكثيرون. وضع مهندسو الجيش البنية التحتية للمستوطنات الإسرائيلية التي من المقرر بناؤها قريباً على هذه الأرض نفسها.
بالنسبة لما تبقى من معسكر السلام الإسرائيلي ومنظمات حقوق الإنسان، وكذلك لنظرائهم الفلسطينيين، فإن الخان الأحمر تشكل المعقل الأخير. وإذا سقطت، فإننا سنكون أقرب إلى فقدان ما أصبح، في واقع الأمر، صراعاً وجودياً. ولذلك، على مدى الأسابيع العديدة الأخيرة، كان الناشطون من كل أنحاء الضفة الغربية، إلى جانب ناشطين من «تعايش»، و»توراة تزيديك»، ومختلف المنظمات الدولية، يقيمون ليلاً ونهاراً في هذا الموقع، مدفوعين بإدراك أن علينا التواجد مع هؤلاء الناس في لحظة صدمتهم الوشيكة. وبما أن جرافات نتنياهو تنوي القدوم في الفجر، نام البعض منا في الخان الأحمر، في حال حدث شيء. ولم يفكر أي منا بأن باستطاعتنا منع عمليات الهدم بأجسادنا، لكننا عرفنا جميعاً أن هذه الجريمة يجب أن توثَّق، مهما كان الثمن، وأن تقدَّم الشهادات عليها إلى العالم.
ليست كلمة جريمة زخرفاً خطابياً. فقد أعلن قرار للاتحاد الأوروبي صدر يوم 13 أيلول أن الطرد العنيف للسكان الأصليين لقرية الخان الأحمر على يد قوة احتلال هو انتهاك جسيم للقانون الإنساني الدولي. وفي إعلان درامي يوم 17 تشرين الأول وصفت رئيسة النيابة العامة في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، فاتو بنسوندا، هذا العمل بأنه جريمة حرب. ويبدو أن هذه التدخلات أثارت فزع الحكومة الإسرائيلية، وعمل احتمال تعرض أي ضابط أو جندي يتم تصويره وهو يشارك في الهدم للاعتقال لدى وصوله أي بلد أوروبي تقريباً، كرادع، في الوقت الحالي على الأقل. في بعض الأحيان، ينجح الضغط الدولي على إسرائيل.
كما يجب أن لا ننسى أيضاً العمل المستدام والمخلص، على مدار العام، للأفراد والمنظمات مثل «مجموعة عمل الجهالين» (التي يرأسها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية)، و»بيمكوم» (مخططو الحق في التخطيط)، من بين جهات أخرى. ومع ذلك، ما كان أي من هذا ليتسم بالفعالية من دون المقاومة العنيدة لسكان الخان الأحمر أنفسهم ودعم الناشطين الذين يتواجدون إلى جانبهم فيزيائياً.
في اللحظة الأخيرة، قبل ساعات فقط من بدء عمليات الهدم النهائية، تردد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وأعلنت الحكومة أن تدمير الخان الأحمر سيتأجل لبضعة أسابيع، والتي يمكن أن تتجدد خلالها المفاوضات على حل ودي. ووفقاً لتوفيق الجبارين، محامي البدو، فإن الخطة التي اقترحها الجهالين أنفسهم في الأساس، قبل وقت طويل، ربما تكون الآن قيد النظر مرة أخرى.
لا أحد يستطيع أن يعرف ما الذي سيحدث تالياً. وهناك أصوات قوية في داخل الحكومة، بطبيعة الحال، من اليمين المتطرف، تدعو إلى سفك الدم. ولا ينبغي أن يشك أحد في أن الجنود ورجال الشرطة سيعملون بعنف شديد عندما يتعلق الأمر بتنفيذ الطرد. والضغط اليميني، المتحالف بشكل مثالي مع ميل الحكومة الطبيعي نحو أجندة الضم على أي حال، يتصاعد وربما يتمكن من فرض محو هذا المجتمع الفلسطيني كله. هذا هو الأسلوب الإسرائيلي الجديد الذي يهدد قرية سوسيا في تلال الخليل الجنوبية وجميع القرى الفلسطينية المتبقية في غور الأردن، وكذلك التجمعات البدوية الأخرى مثل قرى العراقيب وأم الحيران في شمال النقب.
كما هو متوقع، أعاد نتنياهو التأكيد على التزامه بالدمار النهائي للخان الأحمر. لكن بالوسع القول مقدماً: إن مجموعة صغيرة من البشر العاديين العزَّل، الذين أثارهم الظلم الذي يوشك أن يحيق بالأبرياء، والمستعدين لمواجهة العنف المتهور بلا تراجع، قد حققت انتصاراً معنوياً وأخلاقياً لا يمكن أن يقاس بالشروط الأدواتية الصرفة. فحتى انتصار عابر من هذا النوع له معنى ويعطي سبباً للأمل. ربما سيتم تذكر الخان الأحمر باعتبارها المكان الذي تم فيه إيقاف الهبوط الإسرائيلي إلى الوحشية المدمرة للذات، للحظة حاسمة على الأقل. وثمة المزيد من المعارك التي لا تزال تنتظر في الأمام.
أحدث أقدم