Adbox

 

وفا- "للسجن رائحة تشبه رائحة الموت، وللموت رائحة الموت ولا شيء غير ذلك.."، كلمات قالها الأسير المريض وليد دقة (أبو ميلاد) من باقة الغربية بأراضي الـ48، والمعتقل منذ 36 عاما.

رائحة الموت هذه، ما زال الأسير السابق عبد الرحيم النوباني المعروف بـ "أبو النوب" يشتمها.

"أبو النوب" من قرية مزارع النوباني شمال غرب رام الله الذي أمضى من حياته نحو عشرين عاماً في سجون الاحتلال (منذ نهاية الستينات وحتى منتصف الثمانيات)، عايش خلالها عددا من حالات الاستشهاد لرفاق دربه داخل الأسر.

يعود النوباني (70 عاماً) في ذاكرته لأكثر من خمسين عاماً، حين كان يصحو الأسرى في زنازينهم ويجدون أحدهم قد فارق الحياة لكثرة الأمراض التي انتشرت في تلك الفترة، وانعدام أفق الإفراج عنهم من سجون الاحتلال.

"عشنا تلك الفترة في ظل عدم وجود أي بارقة أمل للإفراج عنّا، كنا نقضي حكماً بالسجن المؤبد، أو لسنوات طويلة، وندرك أننا سنموت قبل أن نرى نور الشمس، لأن الأمراض والتعذيب ينخران أجسادنا وينهشانها"، يقول النوباني الذي تعرض للتعذيب الشديد وللتغذية القسرية، عقب شروعه مع 25 أسيرا آخرين بالإضراب المفتوح عن الطعام في سجن نفحة (منذ الرابع عشر من تموز/ يوليو عام 1980)، فيما تم عزلهم في الحادي والعشرين من ذات الشهر في سجن الرملة، وهناك ارتقى ثلاثة منهم شهداء بفعل التعذيب والتغذية القسرية.

"لمست الموت وكنت قريباً جداً منه، بعد أن وضعوا انبوبا بلاستيكيا داخل أنفي.. حشروه بقوة، قاومت، شعرت بالأنبوب يضرب في معدتي وهي فارغة، بينما كان نزيف الدم يغطي أرض المكان، قبل أن يحقنوني بالماء والملح.. شعرت أنهم صبوا في معدتي كاوتشوك محترق". يقول النوباني.

نجا النوباني من الموت، لكن استشهاد الأسير ناصر أبو حميد يوم أمس الأربعاء، نكأ جروحه، وأعاد شريط ذكريات رفاق دربه الذين استشهدوا أمام عينيه، والذين عايشهم لسنوات طويلة. يتذكر جيداً اليوم المشؤوم في الرابع والعشرين من تموز 1980 حين هدرت أصوات السجناء من مختلف أقسام السجن: "يا أسرى نفحة علي الجعفري استشهد"، ليلحق بركب الأسير راسم حلاوة الذي طلب منه في غرفة الانتظار قبل أن يتم نقلهم للعزل أن يجالسه ويتحدث معه خشية منه أن يكون هذا هو لقاءهما الأخير، وهو ما حدث، حيث استشهد بعدها حلاوة تحت التعذيب، والتغذية القسرية، ومن بعد ذلك بثلاث سنوات استشهد رفيقهم الأسير اسحق مراغة.

في تلك الفترة كان الأسرى ينتظرون أن يأتي الصليب الأحمر ليتسلمهم، لا أحياء قطعاً، بل أموات ملفوفين ببطانيات يرسلون إلى ذويهم، بسبب التعذيب القاسي والحرمان من أدنى الاحتياجات، فنهاية الطريق التي كان الأسير ينتظرها هي الشهادة لا غير.

وقتها، كان الأسرى المرضى يخشون أن يلفوا بالكيس الأسود، وهو نفسه الكيس الذي لف فيه الأسير ناصر أبو حميد، "نخاف أن نعود لأمهاتنا بكيس أسود"، يقول "أبو النوب"، غير أن أبو حميد لن يعود إلى حضن أمه لتودعه ويدفن إلى جانب شقيقه الشهيد عبد المنعم الذي استشهد عام 1994، فقد أصدر وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس، صباح اليوم الأربعاء، قراراً يقضي بعدم تسليم جثمانه لأهله.

"السجن ليس برحلة أو نزهة، هو تجربة مليئة بالألم والقهر والظلم والقمع.. لكنه مليء بالشرف أيضاً، فأنت في المعتقل تصنع التاريخ، وكل التواريخ مزورة إن لم تكن دون دماء وتضحية". يضيف أبو النوب.

ويشكل الإعلان عن استشهاد أحد الأسرى انعكاساً مريراً على الأسرى، خاصة من عاش معه فترة طويلة، لكن وفق أبو النوب:" كان لا بد من التعود على استشهاد الرفاق بسبب الوضع الكارثي التي كانت عليه السجون، لكن ذلك لم يترك حالة من الضعف والهوان لدى الأسرى بل ترك فيهم العزيمة والوفاء، والعهد باستمرار مسيرة النضال المعبد بالدم والتضحيات".

وفي تجربة الأسير المحرر والروائي عصمت منصور، الذي قضى عشرين عاماً في سجون الاحتلال، يقول: "حين يعلن عن استشهاد أحد الأسرى فإن الحزن العميق يعم أرجاء السجون، ويعلن الحداد الفوري، وتعاد وجبات الطعام التي تقدمها إدارة السجون، ويعتكف الأسرى في الزنازين والغرف والأقسام."

"تصدح تكبيرات الأسرى في كافة السجون" يضيف منصور، كما "يبدأون بالطرق على الأبواب غضبا وتنديدا بجريمة سلطات الاحتلال التي أدى إهمالها الطبي المتعمد إلى ارتقاء الأسير، فيما تتحول ساحات "الفورة" متنفس الأسرى الوحيد إلى بيوت عزاء يشارك فيها كل الأسرى، يتبادلون فيها المواساة والتعازي، فيما توزع القهوة السادة، وتلقى الكلمات التي تتحدث عن مناقب الأسير النضالية".

ويتابع: "تدرك إدارة السجون أن هذا الحدث ضخم، فتحاول احتواءه وامتصاصه، من خلال سماحها رغماً عنها باجتماع أقارب الشهيد، أو اخوته في سجنٍ واحد، ويمكن أن يسمح لهم بالتواصل مع الخارج، وأيضاً يسمح بتواصل قيادات الأسرى مع بعضهم البعض، وتلجأ إدارة السجون لهذه التصرفات خوفاً من أن يتحول الأمر إلى غضب وردة فعل لا يمكنها السيطرة عليه".

هناك، تنتشر قوات مدججة من وحدات القمع تحسباً لأي طارئ، يقول عصمت منصور، وعلى مداخل الأقسام أيضا، وتُعلن حالة الاستنفار، وتقطع إجازات السجانين، وتستمر هذه الحالة حتى انتهاء الحداد، غير أن الحزن بالفقد يبقى ويستمر ويتعاظم، بانتظار الأسير الشهيد التالي، وكأن ذلك وردة تذبل أمام أعين الجميع.. لا يمكنه رعايتها والعناية بها".

ومنذ عام 1967، ودعت الحركة الأسيرة (233) شهيداً، إضافة إلى مئات الأسرى الذين اُستشهدوا بعد تحررهم متأثرين بأمراض ورثوها عن السجون، وكان من بين من ارتقوا (خلال السنوات القليلة الماضية)، نتيجة (إصابتهم بالسرطان) وتعرضهم لجريمة الإهمال الطبي، وأفرج عنهم: الشهداء زكريا عيسى، وحسين مسالمة، وإيهاب زيد الكيلاني، وغيرهم الكثير.

ويحتجز الاحتلال جثمان 10 أسرى شهداء، وهم: أنيس دولة، الذي اُستشهد في سجن عسقلان عام 1980، وعزيز عويسات منذ عام 2018، وفارس بارود، ونصار طقاطقة، وبسام السايح وثلاثتهم اُستشهدوا خلال عام 2019، وسعدي الغرابلي، وكمال أبو وعر خلال العام المنصرم 2020، والأسير سامي العمور الذي اُستشهد عام 2021، والأسير داود الزبيدي الذي اُستشهد العام الجاري 2022، ومحمد ماهر تركمان الذي ارتقى خلال هذا العام في مستشفيات الاحتلال.

ويبلغ عدد الأسرى المرضى أكثر (600) أسير يعانون من أمراض بدرجات مختلفة وهم بحاجة إلى متابعة ورعاية صحية حثيثة، منهم (24) أسيرًا ومعتقلًا على الأقل مصابون بالسرطان، وبأورام بدرجات متفاوتة.

يذكر أن هناك 4700 أسير في سجون الاحتلال، يتوزعون على 23 سجنا ومركز توقيف وتحقيق، بينهم 34 أسيرةً، و150 طفلاً قاصراً، و600 أسير يعانون من أمراض بدرجات مختلفة، وبحاجة إلى متابعة ورعاية صحية وتدخلات طبية عاجلة، منهم 24 أسيرًا يعانون مرض السرطان وأورام مختلفة.

أحدث أقدم