الأيام
- وصلت المجاعة في شمال قطاع غزة، خلال الساعات الأخيرة، إلى ذروتها بعد نفاد نحو
99% من جميع أصناف المواد الغذائية والتموينية، ما تسبب في حالة خوف وذعر شديدة في
صفوف أكثر من نصف مليون مواطن يعيشون في المنطقة، التي ترزح تحت حصار إسرائيلي
قاسٍ منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من شهر تشرين
الأول الماضي.
وخلت
الأسواق والمحال التجارية والبسطات من الأرز وطحين الأعلاف الذي شكّل العمود
الفقري لطعام سكان المنطقة منذ أكثر من شهرين ونصف الشهر، بعد نفاد الطحين الأبيض
العادي، كما اختفت المعلبات الغذائية، فيما تواصل خلو الأسواق من الخضراوات وجميع
أصناف اللحوم والطيور والأسماك والفواكه منذ أكثر من أربعة أشهر.
واختفت
بشكل شبه كلي جميع أصناف الأعشاب التي لجأ إليها المواطنون كبديل عن الخضراوات
الورقية لاستخدامها في الطهي، كالخبيزة واللسان النباتي، وفجل أبو علي، وغيرها من
الأعشاب التي تنمو في الأراضي الزراعية بين الأشجار والأزقة وعلى جوانب الطرقات،
وهي أعشاب لم تكن تدخل في الماضي في صناعة الطعام الآدمي باستثناء عشبة الخبيزة.
واضطرت
شريحة واسعة من المواطنين إلى طلب المساعدة من مواطنين آخرين ظناً منهم أنهم
يمتلكون بعض المواد الغذائية، كما نمت ظاهرة التسوّل بشكل كبير جداً، وامتلأت
الشوارع بهذه الشريحة التي بررت ذلك بمحاولتها الأخيرة لتجنب الموت جوعاً، كما
ذكرت المواطنة فاطمة محمد وهو اسم مستعار.
وتجوب
فاطمة في الأربعين من عمرها يومياً العشرات من الشوارع والمحال التجارية للحصول
على ما تيسر من المساعدات.
وقالت،
إنها وفي ظل تواجد زوجها خارج قطاع غزة لم تجد خياراً آخر إلا طلب المساعدة من
المواطنين والتجار وغيرهم من الشرائح المقتدرة.
ويضطر
المواطنون البالغون إلى تقليص كميات الطعام إلى مستويات باتت تشكل خطراً على
حياتهم من أجل توفيرها للصغار، للحفاظ على حياتهم ولتجنب إصابتهم بالعديد من
الأمراض الناتجة عن سوء التغذية، لعدم قدرتهم على تحمل تبعات علاجهم بسبب انعدام
الرعاية الصحية والطبية في المنطقة، كما هو الحال مع المواطن زكي علاء الدهري،
الذي قرر تناول نصف وجبة طعام إلى جانب نصف رغيف من خبز العلف الحيواني يومياً
بهدف توفير كمية أكبر لأبنائه الصغار.
ويعاني
الدهري، في مطلع الأربعينيات من عمره، من صعوبة تناول أبنائه الصغار الخبز، بسبب
صلابته واحتوائه على مواد تتسبب بجروح في الحلق.
وأشار
الدهري إلى أن بقاء الوضع على ما هو عليه خلال الساعات القادمة سيدفعه إلى خيارات
قاسية، منها التوجه للحدود أو غيرها.
وفاة
أطفال ومسنين
وفسر
بعض الأطباء والمواطنين في أحاديث منفصلة مع "الأيام" تزايد أعداد
الوفيات في صفوف الأطفال وكبار السن، خلال الأسابيع الأخيرة، بسوء التغذية، وعدم
تناولهم ما يلزم أجسامهم من المواد الغذائية والرعاية الطبية.
وقال
مصعب عبد الرؤوف، إن والده المُسن توفي فجأة قبل خمسة أيام بعد أن حرمته المجاعة
من تناول كميات كافية ولازمة من الطعام، والعلاجات اللازمة لعلاج مرض القلب
المزمن.
وأوضح
عبد الرؤوف أن والده في الأيام الأخيرة من حياته عانى من جفاف وضعف ووهن وضيق
بالتنفس، ولم يستطع فعل أي شيء لعلاجه لعدم قدرته على توفير الغذاء وانعدام
الرعاية الصحية، بعد تدمير قوات الاحتلال جميع المستشفيات ونفاد الأدوية.
أما
المواطن عبد الحكيم الحملاوي فقد لجأ ومجموعة كبيرة من المواطنين، إلى مركز للشرطة
في بلدة جباليا طلباً لمساعدة غذائية عاجلة لم يحصل عليها بعد انتظار لأكثر من
ساعتين.
ولفت
الحملاوي، الذي يعاني وضعاً صحياً واجتماعياً قاسياً، إلى أنه جاء من وسط منطقة
جباليا إلى مركز الشرطة لتوفير عدة كيلوغرامات من الطحين بصرف النظر عن نوعيته،
مبيناً أن المهم هو تناول أي شيء.
وبيّن
الحملاوي في أواخر الخمسينيات من عمره أنه "منذ عشرة أيام لم يتناول أرخص
أنواع الخبز المصنوع من علف الحيوانات بسبب ارتفاع سعره إلى نحو 40 شيكلاً للكيلو
الواحد".
وأضاف،
"تحتاج أسرتي المكونة من ثمانية أفراد إلى ثلاثة كيلوغرامات من هذا النوع من
الخبز يومياً وهذا مبلغ خيالي مقارنة مع ظروفي المادية القاسية".
وتابع
الحملاوي، الذي يعاني من تبعات عملية قلب مفتوحة أجراها قبل العدوان بعدة أيام:
بالكاد أستطيع توفير ثمن المياه وبعض مستلزمات الأسرة الضرورية وعلاج ابني خالد
المصاب، فكيف لي أن أتحمل تكاليف شراء الخبز بهذه الأسعار يومياً.
مواجهة
الموت
ودفعت
المجاعة المتفاقمة بعشرات آلاف المواطنين إلى الاندفاع والتوجه إلى المنطقة
الفاصلة بين شمال القطاع وجنوبه، التي تسيطر عليها قوات الاحتلال، بانتظار بعض
سيارات نقل المساعدات التي تدخل المنطقة على فترات متباعدة.
ولم
تخل رحلة هؤلاء من المخاطر الشديدة حيث سرعان ما تطلق دبابات الاحتلال نيران
أسلحتها الرشاشة والقذائف باتجاه هذه الجموع، التي تتدافع عند وصول الشاحنات إلى
منطقة تمركز الدبابات، حيث تجبرها قوات الاحتلال على تفريغ حمولتها بالقرب منها،
ما يؤدي إلى استشهاد وإصابة العشرات من المواطنين المتدافعين.
وقال
الشاب مهند موسى، الذي واجه الموت أكثر من مرة خلال توجهه إلى منطقة دوار الكويت
القريب من تواجد قوات الاحتلال، حيث تفرغ بعض شاحنات المساعدات حمولتها هناك، إنه
فشل لأكثر من خمس مرات توجه خلالها إلى المنطقة من أجل الحصول على كيس طحين أو بعض
المعلبات، بسبب تواضع الكميات والأعداد الهائلة من المواطنين من أمثاله.
وأكد
موسى أنه مستعد لمواجهة جميع المخاطر في سبيل حصوله على كمية من الدقيق أو
المعلبات الغذائية لأسرته التي تعاني من المجاعة بعد نفاد جميع المواد الغذائية من
المنزل منذ أكثر من أسبوعين.
وأوضح
أن أسرته باتت تعتمد منذ تلك الفترة على طعام تقدمه "تكية" تتبع لإحدى
المؤسسات الخيرية في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة لمئات النازحين في مراكز الإيواء.
وأبدى
تشاؤمه من إمكانية حصوله على أي من المساعدات القليلة التي تدخل، بسبب عدم سماح
قوات الاحتلال بحماية الشاحنات من أجل وصولها إلى عمق المنطقة، وسماحها لبعض
العصابات والمجموعات بالسيطرة عليها ومن ثم بيعها بأسعار خيالية تصل إلى ألفي شيكل
لكيس الدقيق وزن 25 كغم.
وتتجسد
كارثة المجاعة في أسرة المواطن ناصر أبو وردة المحرومة من تناول أي من أنواع الخبز
منذ شهر، لعدم امتلاكه ثمن ذلك.
وقال
ناصر باكياً، اقسم بالله أن أسرتي لم تتذوق أي نوع من أنواع الخبز منذ اكثر من شهر
لعدم امتلاكي ثمن رغيف واحد. وأضاف لـ"الأيام"، انه يعيش عند أهل زوجته
بعد أن دمرت قوات الاحتلال منزله مع بداية عدوانها.
وأوضح
أبو وردة، في الأربعينيات من عمره، أن أهل زوجته يعانون أوضاعاً مادية صعبة وقاسية
جداً حالت دون تقديمهم المساعدة له، ما دفعه إلى الاعتماد على ما يقدمه المحسنون
في غياب عمل المؤسسات والجمعيات الأهلية في المنطقة بسبب الحصار الإسرائيلي.
وبيّن
أبو وردة، الذي يعاني من إعاقة حركية جزئية، أن أسرته المكونة من سبعة أفراد أصبحت
تعاني من الكثير من الأمراض ومنها الضعف العام وفقدان الوزن والآلام الدائمة في
البطن، والالتهابات الحادة في المسالك البولية.
وتساءل
أبو وردة عن دور المؤسسات والجمعيات المحلية والدولية في ظل المجاعة والأوضاع
القاسية التي يعانيها مواطنو شمال غزة.
عمل
المؤسسات الخيرية
ويقتصر
عمل القطاع المؤسساتي والأهلي في شمال غزة على بعض المؤسسات فقط، تنشط في توزيع
الوجبات الغذائية والتي باتت على أعتاب التوقف مع نفاد المواد الغذائية، خاصة
الأرز والحبوب الأخرى كما قال أحد القائمين على هذه المؤسسات
لـ"الأيام".
وشهدت
مناطق متفرقة في شمال غزة مسيرات وتظاهرة للمطالبة بإدخال المواد الغذائية
والمساعدات بشكل عاجل، لتفادي موت جماعي للمواطنين، وأبرز هذه التظاهرات جرت في
جباليا التي تضم نصف سكان المنطقة الشمالية.
ومنذ
اليوم العشرين للعدوان، نفدت جميع أنواع الخضراوات والفواكه واللحوم البيضاء
والأسماك المجمدة من الأسواق، وبدأت الأسعار بالارتفاع وصولاً إلى ذروتها الآن،
حيث تباع بعض السلع بأسعار خيالية وسط استياء المواطنين، ومطالبهم بمعاقبة
المحتكرين.
ووصل
سعر كيلو الطحين الأبيض الشحيح جداً إلى 100 شيكل، فيما وصل سعر كيلو الأرز إلى 70
شيكلاً، وكيلو العدس 60 شيكلاً وكيلو الحمص بـ30 شيكلاً، والفول بـ35 شيكلاً فيما
وصل سعر عبوة اللحمة وزن 250 كغم إلى 35 شيكلاً، كما ارتفع سعر عبوة الفول وزن 250
غراماً إلى 18 شيكلاً.
تناول
الأعشاب
وفي
مشهد يعكس الواقع الصعب والمخاوف الكبيرة للمواطنين، تخاطف مئات المواطنين كمية من
الأعشاب جاء بها أحد المواطنين على عربة كارو يجرها حمار وسط جباليا لبيعها.
ولم
يستغرق إفراغ الحمولة التي تقدر بـ300 كيلوغرام اكثر من دقائق معدودة رغم ارتفاع
أسعارها، وبررت المواطنة رحمة جنيد شراءها العشبة رغم عدم طهوها في السابق، إلى
عدم وجود خيارات أخرى أمامها.
وقالت،
سأسحقها ومن ثم سأطهوها وستتناولها الأسرة مرغمة لعدم وجود خيارات أخرى، معربة عن
سخطها الشديد على العالم لعدم قدرته على إدخال المواد الغذائية بالحد الأدنى
للمنطقة.
وفي
مشهد يدلل على مدى خوف وذعر المواطنين، تخاطف العشرات من المواطنين حمولة عربة
"كارو" من التمر غير الصالح للاستخدام الحيواني وبسعر تجاوز الثلاثين
شيكلاً للكيلو الواحد وسط بلدة جباليا.
ورغم
عدم صلاحية التمر وخروج بعض الديدان منه ومشاهدتها بشكل واضح، إلا أن المواطنين
أصروا على شرائه لعدم وجود خيارات أخرى.
وقال
المواطن رزق أبو زر، إنه يخشى وفاة أبنائه جوعاً أكثر من إصابته بمرض نتيجة عدم
صلاحية التمر، مؤكداً أن أسرته لم تتناول كميات كافية من الطعام منذ اكثر من شهر.
وأوضح
عدد من مسؤولي المؤسسات أنهم يواجهون صعوبات بالغة في العمل شمال غزة، بسبب الحصار
والقيود الإسرائيلية، وعدم قدرتها على تحويل الأموال، وكذلك نفاد المواد الغذائية
والتموينية، عدا عدم سماح قوات الاحتلال بإدخال أي من المساعدات للمنطقة.
ومنذ
اليوم الأول للاجتياح الإسرائيلي البري لمنطقة شمال غزة في اليوم العشرين للعدوان
على القطاع، فرضت قوات الاحتلال حصاراً كاملاً على المنطقة، وفصلتها عن باقي
محافظات القطاع، ومنعت إدخال أي شيء لها بعد أن أجبرت اكثر من مليون من سكان
المنطقة على النزوح إلى محافظات الوسطى وخان يونس ورفح، ما أدى إلى تفاقم الأزمة
الغذائية.
وحسب
شهود عيان فإنه ومنذ أسبوعين دخلت ثلاث شاحنات محملة بكميات محدودة من الطحين إلى
شمال القطاع، أجبرتها قوات الاحتلال على تفريغ حمولتها بالقرب من تمركز الآليات
العسكرية لعدم السماح بتأمينها وتوزيعها بالحد الأدنى من العدالة في المناطق
الأخرى.
ومع
انعدام أي افق لإدخال مساعدات ملموسة وجدية إلى المنطقة التي تعرضت للدمار الشامل
خلال العدوان، وإعلان برنامج الأغذية العالمي وقف عمليات إدخال المساعدات لشمال
قطاع غزة باتت خيارات المواطنين محدودة، إن لم تكن معدومة، وباتت الخشية من الموت
جوعاً تقض مضجعهم.
وتبقى
في المنطقة نحو نصف مليون مواطن أصروا على البقاء، رغم الضغوط العسكرية القاسية،
والدمار الهائل الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية، منذ بداية العدوان وحتى الآن،
بهدف ترحيلهم إلى محافظات الجنوب.
ورغم عدم صلاحية جميع مراكز الإيواء والنزوح والمنازل في المنطقة للحياة الآدمية، إلا أن المواطنين فضلوا البقاء والصمود والثبات.