Adbox

بقلم:آمال العرفي الرطروط

“العدالة هي الضمير الواضح للبشرية.” فيكتور هوغو

جريدة القدس - "إسرائيل عذبت بسادية رهائن فلسطينيين حتى الموت، ولم تُخفي ذلك لأنها تعرف أن الإعلام الغربي سيتجاهل الأمر بالكامل تقريباً." هكذا، وبكلمات قليلة، كتب الصحفي البريطاني أوين جونز عن أفظع مأساة في القرن الحادي والعشرين، واصفاً مشاهد جثامين الرهائن الفلسطينيين التي أرسلها الإحتلال إلى غزة. مشاهد يعجز العقل واللسان عن وصف وحشيتها، حيث لم يعد القتل والتعذيب يُرتكب في الخفاء، بل يُمارس في العلن، وتُبرره الحكومات والمنظمات الدولية التي يُفترض بها أن تراقب الحقيقة.

في نوفمبر عام 1945، بعد الحرب العالمية الثانية، قرر العالم محاكمة النازيين، فبدأت محاكمات نورنبيرغ الشهيرة، تلك المحاكمات التي بدت و كأنها فجر جديد لضمير العالم. يومها، وقف القادة النازيين أمام العدالة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وصدح العالم بوعد عالمي واحد بأن لن يتكرر ذلك أبداً. لكن التاريخ، كما قال هيغل: "يُعلمنا شيئاً واحداً، أنه لا أحد يتعلم منه."

فعلى مدار عامين من الحرب في غزة، صمت العالم، والآن يصمت من جديد أمام صور التعذيب التي مارسها الاحتلال على الأسرى الفلسطينيين الذين قُتلوا بسبب التعذيب وسُلمت جثامينهم بطريقة تخلو من الإنسانية. صور لم تحرك ضمير العالم، ولم نسمع حتى تنديداً بما فعلته إسرائيل بهم.

كان الهدف من محاكمات نورنبيرغ أن يُنشأ وعي إنساني جديد، يؤكد على أن الجرائم لا تسقط بالتقادم، وأن كل روح بشرية تستحق العدالة. أما اليوم فنحن أمام واقع يقول العكس، هناك أرواح يُسمح بقتلها، وأخرى يُستدعى العالم لحمايتها. وهكذا تتحول العدالة إلى مرآة مكسورة، تعكس صورة القوة لا صورة الحق، تماماً كما قال برتراند راسل: "حين يُعاقب الضعيف ويُكافأ القوي، فاعلم أن العدالة قد استُبدلت بالسياسة."

لقد أصبحت العدالة انتقائية، كما لو أنها امتياز يُمنح وفق الجغرافيا والسياسة و القوة، لا وفق القيم والإنسانية. في محاكمات نورنبيرغ، قيل إن العدالة وُلدت من رماد الحرب العالمية، أما اليوم فالعدالة تُدفن في رُكام غزة. لا أفهم كيف يمكن للعالم الذي حاكم النازيين أن يصمت على جرائم بُثت مباشرة أمام عيناه على مدار عامين؟ وأي معنى تبقى للضمير الإنساني الذي أنشأ الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية سوى إنهم أصبحا مجرد ديكور قانوني؟

إن فلسفة العدالة ليست نصاً قانونياً، بل وعيٌ أخلاقي. وقد حذرت حنة أرندت بشأن العنف في كتابها "تفاهة الشر" حين قالت: "إن العنف قد يُصبح مجرد روتين يمارسه الناس دون شعور بالذنب". وهذا ما يحدث اليوم، فالعنف لم يعد استثناء، بل ممارسة سياسية مشروعة تبررها بيانات الدفاع عن النفس. إن أخطر ما في الجريمة ليس الدم، بل التبرير، لأن التبرير يُحول الجريمة إلى منطق، والمنطق إلى سياسة، والسياسة إلى تكرار دائم للوحشية.

الأسئلة التي تُواجه العالم اليوم ليست أسئلة قانونية فقط، بل أسئلة إنسانية وجودية أيضاً، هل ما زال في مقدور الإنسان الحديث أن يكون عادلاً؟ هل ما زالت العدالة ذات قيمة مطلقة، أم أصبحت مجرد أداة في يد الأقوياء؟ وهل يمكننا وسط هذا الخراب، أن نحلم ان يأتي ذلك اليوم الذي سيُحاسب فيه من قاموا بالإبادة في غزة، وقتلوا أطفالها، ومزقوا إنسانيتها؟.

إن لم يأت هذا اليوم، فسيكون التاريخ قد خان نفسه، وستكون العدالة التي أنجبت نورنبيرغ قد ماتت مرتين، مرة حين دعم العالم إسرائيل في الحرب، ومرة حين صمتت عن الإبادة. ويبقى السؤال الأهم الذي لا يبرح الضمير الإنساني الحي، هل سنشهد يوماً محاكمات نورنبيرغ جديدة من أجل ضحايا الإبادة؟ أم أننا سنعيش إلى الأبد في زمن يُكافأ فيه الجلاد ويُدان فيه الضحية؟

أحدث أقدم