
مؤسسة الدراسات الفلسطينية- تصاعدت في الآونة الأخيرة بطريقة غير مسبوقة وتيرة الاستعمار الاستيطاني، عبر فرض وقائع جديدة وتكريسها عن طريق سياسات استيطانية متنوعة، من انتشار البؤر الاستيطانية الرعوية داخل أحياز القرى والمدن، إلى انفلات عنف المستوطنين وإحراق القرى، بمساعدة جيش الاحتلال عبر سياسات متكاملة يسيطر فيها قلة من المستوطنين على أراضٍ واسعة؛ إذ تمتاز هذه البؤر بحدود رخوة تحددها مراعي أبقار المستوطنين، ونباح كلابهم.
يجادل مجدي المالكي وأحمد أسعد أن مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 هي مرحلة جديدة في تاريخ الاستيطان؛ فقد مرّ خلالها الاستيطان بسيرورة تاريخية معقدة عنوانها الرئيسي السيطرة على أراضٍ أكبر مع وجود عرب أقل وإن اختلفت الآليات.[1]
وقد وسمَت مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر بسمات جديدة تحت ذرائع متعددة مستغلة حرب الإبادة على قطاع غزة من أجل فرض وقائع جديدة لحسم مستقبل الضفة الغربية، وأبرز ملامح هذه المرحلة: الانتقال لفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على أراضي الضفة الغربية عبر سياسات أكثر شمولية وبوتيرة أعلى وأعنف؛ وتأتي هذه السياسات في إطار محاولات تهجير الفلسطينين من أراضيهم والسيطرة عليها، وتضييق الخناق عليهم عبر حصرهم في مناطق جغرافية متناثرة ومعزولة بعضها عن بعضها الآخر؛ إذ تحولت فيها الجغرافيا إلى أحياز سجنية ورقابة دائمة، عن طريق انتشار عدد كبير من الأبراج والبوابات الحديدية والحواجز الأسمنتية على مداخل تلك القرى والمدن محولةً الجغرافيا الفلسطينية إلى نقطة تفتيش كبيرة ومعابر للموت.
تدرس هذه المقالة أثر السياسات الاستعمارية الاستيطانية في قرية عابود (شمال غربي مدينة رام الله) كعينة مصغرة تتشابه فيها الأوضاع القهرية مع تلك التي تمر بها القرى الفلسطينية الاُخرى، والتي تصنف بحسب اتفاقية أوسلو بمناطق (ج) وفق التقسيم الاستعماري للجغرافيا الفلسطينية، وتحاول هذه المقالة تتبع أبرز تلك السياسات التي تعيد ترسيم الحيز المكاني بصورة مستمرة والتي بدورها أثرت تأثيراً بنيوياً في مختلف مناحي الحياة.
على الطريق الساحلي القديم
تقع قرية عابود إلى الشمال الغربي لمحافظة رام الله والبيرة على بُعد نحو 30 كم؛ عند الطريق المؤدي إلى الساحل أو ما سُمي وقتها طريق راس العين، وكانت عابود في الفترة الرومانية ضمن أهم الطرقات التجارية القديمة؛ إذ تشكلت الحياة الحضرية للقرية حول هذه الطريق، وكانت القرية ضمن أعمال اللد والرملة قبل سنة 1948 ترتفع عن سطح البحر بنحو 450م، وتجاورها قرية اللبن الغربي، ورنتيس، وشقبا، ودير أبو مشعل، ودير نظام، وبيت ريما، ودير غسانة.
وقد سلك المسيح في الذاكرة الشعبية الدينية الطريقَ الساحلي في أثناء مروره بقرية عابود، وكان يجلس على مكان مرتفع ويعلِّم الناس، وهو ما انعكس في مكانتها الدينية وقِدم كنائسها، أمّا المرويات الشفوية عن كبار السن، فتحكي عن الارتباط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بمدن الساحل كيافا واللد والرملة؛ إذ كان يباع تفاح القرية وزيتونها في أسواق تلك المدن وقراها، وذلك قبل أن تأتي حروب النكبة سنة 1948 وتقطع علاقة القرية مع الساحل، وتتحول في إبان الحكم الأردني إلى منطقة حدودية ويصبح جزء من أراضيها الغربية مناطق محرمة؛ وفق ما رسمته خطوط اتفاقية الهدنة الموقعة مع الأردن سنة 1949. وبحسب ما يتداوله أهالي القرية؛ كانت تصل أراضيهم إلى رأس العين في يافا، التي وقعت تحت سيطرة دولة إسرائيل بعد أحداث النكبة، فلم تعد القرية إلى الارتباط السُري مع الساحل، واستدارت شرقاً في إبان الحكم الأردني وبدأت علاقتها تتكون مع مدينة رام الله وعمان.
القرية وبدايات الاستيطان بعد سنة 1967
احتُلت قرية عابود سنة 1967 وخضعت كسائر أراضي الضفة الغربية لإجراءات الحكم العسكري، وما رافقه من إخضاع على الصعد كافة، عبر مدونة من القوانين الاستعمارية والأوامر العسكرية التي تهدف إلى السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي وإنشاء المستعمرات عليها، كما عانت القرية جرّاء كثافة الأوامر العسكرية تلك، فعلى سبيل المثال في 1974، صدر قرار عسكري بوضع اليد على 30 دونماً، باعتبار هذه الأراضي مناطق أمنية، وقد حرمت تلك القرارات العسكرية الأهالي من استغلال أراضيهم الزراعية؛ الأمر الذي حرم الأهالي من منتوجها الزراعي المتعدد، هذه الأراضي التي تقع اليوم في محيط مستعمرة عوفريم التي أقيمت على أراضي عدة قرى ضمنها عابود سنة 1989، وتبلغ مساحتها نحو 13,800 دونم، ومن الجدير ذكره أن في سنة 2018 شرع الاحتلال ببناء حي جديد لمستعمرة عوفريم على ما يقارب 30 دونماً زراعياً شرق مستعمرة عوفريم، والتي مُنع أهلها من الوصول إليها منذ سنة 1974 بحسب القرار العسكري أعلاه،[2] وقبل إقامة مستعمرة عوفريم بسنوات أقيمت على أراضي القرية من الجهة الغربية مستعمرة بيت أريه والتي تقع عند الطريق الساحلي الذي أعيد تشغيله بعد سنة 1967، فكان الشارع الرئيسي للقرية مهماً؛ إذ يربط بين شمال فلسطين وساحلها مع الجبال الوسطى؛ فقد عادت عابود كموقع مواصلات، لكن هذه المرة تحت حراب مستعمرة بيت أريه وعوفريم، فبقي هذا الطريق حتى انتفاضة الأقصى سنة 2000؛ بعد أن أُغلق لأنه شكّل عصب الحياة الاقتصادية للقرية، وقد رافق ذلك إغلاق عشرات الورش والمحلات التجارية، واستُعيض عنها بطريق التفافي يمر من أطراف القرية الشرقية.
ومن الجدير ذكره، أن هذا الشارع الالتفافي يربط بين مستوطنات الجبال الوسطى ومدن الساحل عبر شبكة من الطرقات التي تُفتت الجغرافيا الفلسطينية وتفصل بعضها عن بعضها الآخر، وتوصل في الوقت نفسه المستوطنات وتحولها إلى تجمعات استطانية تخضع لمجالس المستوطنات. وفي الآونة الأخيرة على سبيل المثال، قامت قوات الاحتلال بشق طريق من أراضي القرية يربط بين مستعمرة بيت أريه وعوفريم لكي تصبح ضمن تجمع استيطاني أكبر يُعرف باسم "موديعين عليت".
صادر شق هذا الشارع الالتفافي مئات الدونمات الزراعية، وجرف أُخرى، وفي سنة 1995 وفي أثناء اتفاقية السلام، قامت دولة الاحتلال بتوسيع هذا الطريق وتعبيده؛ إذ كان ترابياً، ووُضعت على طرف القرية الشرقي لوحة تعريفية تفيد أن هذه المناطق يحظر على الإسرائليين دخولها، ووضعت هذه اللوحة على أراضٍ كانت ملكيتها تابعة لجدي (من عائلة البرغوثي) بعد تجريفها بحجة توسعة الطريق وما رافق ذلك من اقتلاع مئات أشجار الزيتون.
وفي أثناء الانتفاضة الثانية، اقتُلعت آلاف أشجار الزيتون في الجهة الشرقية الذي كان يشكل معظم إنتاج المحصول للقرية. واليوم وفي أثناء كتابة هذه السطور في تشرين الثاني/نوفمبر 2025، يقام على مدخل القرية المصطنع بوابة حديدية يحرسها برج على عشرات الدونمات، ويُمنع البناء عليها لتُحرم القرية من التمدد شرقاً بحجة أنها مصادَرة للضرورة الأمنية، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر لا بد من الإشارة إلى أنه ومع اندلاع الانتفاضة الثانية أُغلق هذا المدخل بسواتر ترابية لمدة سنوات متواصلة، الأمر الذي حاصر القرية وعزلها عن محيطها وقطع علاقتها مع القرى المجاورة ومع مدينة رام الله وفتت شبكة علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية، وفي أثناء حرب الإبادة الأخيرة، أُغلقت البوابة الحديدية لمدة أسابيع طويلة وعانت القرية جرّاء حصار خانق ومُنع وصول المزارعين إلى أراضيهم في إبان موسم قطف الزيتون، فبقي المحصول بلا قطاف ومُنع الناس من الحركة، وهو ما جعلهم يبحثون عن طرق بديلة صعبة ووعرة تجعل من التنقل مهمة مستحيلة.
عابود التي فقدت جهاتها الأربع
تبلع مساحات قرية عابود وفق هيئة الجدار نحو 15,000 دونم، وهناك مَن يفيد أن الرقم يبلغ 18,000 دونم، وبغض النظر عن تفاوت الإحصاءات، فإن المعروف أن القرية تملك مساحات كبيرة تمتد إلى أطراف القرى المجاورة، وتصنف بحسب اتفاقية أوسلو 2279 دونم (16%) مناطق (ب) والمساحة المتبقية وهي كبيرة جداً تقدّر مساحتها بـ13,000 دونم (%83) تقريباً وتُصنف مناطق (ج)؛ وهي الأراضي الزراعية التي تعتاش منها القرية؛ إذ فقدت عابود منها نحو 7000 دونم كأراضي مصادَرة،[3] ما بين شوارع التفافية، ومستعمرات، وجدار استعماري يفصل الأراضي الغربية عن محيط القرية، والذي تزامن بناؤه مع جدار الفصل العنصري في إبان الانتفاضة الثانية، وأقيم على ما يقارب عشرات الدونمات الزراعية،[4] ولا يسمح للقرية بالتمدد العمراني إلاّ داخل حدود مناطق (ب)، أمّا ما تبقّى من المساحة، فيحظر عليهم التوسع العمراني فيها، الأمر الذي حصر أهالي القرية داخل مساحة لا تتناسب مع تزايدهم السكاني، وهو ما اضطر بعضهم إلى مغادرتها والسكن في مناطق قريبة من أعمالهم، وخصوصاً بعد إغلاقات القرية المتكررة وصعوبة الوصول إلى أماكن العمل، أمّا الجزء الآخر، فاضطروا إلى البناء في مناطق (ج) من دون السماح لهم باستصدار تراخيص لذلك، وهو ما يهدد هذه المباني وسكانها، علماً بأن دولة الاحتلال أصدرت قرارات بالهدم للعديد من المباني بحجة عدم قانونيتها.
البؤرة الرعوية تصادر جنوب القرية
في خضم الأحداث العنيفة التي مارستها دولة الاستعمار الاستيطاني في حربها الأخيرة، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، تزايد خروج فتية التلال من مستعمراتهم لكي يمارسوا عمليات العربدة والتخويف والاستيلاء على الأراضي وإحراق القرى كما حصل في حوارة وترمسعيا والمغير وغيرها من القرى، وقد أصاب قرية عابود ما أصاب غيرها؛ إذ صادر مستوطن رعوي مسلح ومدعوم من الجيش نحو 75 دونماً زراعياً يدعي تملكها، كما قام بإغلاق الطريق القديم بالسواتر الترابية ما بين عابود وشقبا، وهو ما يُعرف بـ"طريق المي"، وطارد المزارعين ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم في موسم محصول الزيتون؛ إذ منع العشرات منهم بدعم من قوات الجيش، بحسب اللوحة التي يضعها على جبل (الفتاح) المطل والمرتفع، وهدد عشرات المباني العمرانية؛ فهو لن يكتفي بما يملك وسيتوسع على حساب ما تبقّى من أراضي القرية؛ لتفقد القرية جهة مهمة كانت تتوسع فيها عمرانياً. ومن اللافت أن اقتحامات الجيش للقرية وترويع أهلها أصبحت يومية بعد قدوم هذا المستوطن، وما رافقه من اقتحامات متكررة لوادي الليمون الذي يُعتبر متنفس ترفيهي للقرية وفيه أهم عيون المياه المهددة بالمصادرة.
ختاماً؛ يعتمد سكان قرية عابود على القطاع الزراعي؛ إذ إن نصف الأهالي تقريباً يعملون في هذا القطاع الذي تضرر بصورة كبيرة، وهو ما رفع نسبة البطالة بين أهالي القرية؛ إذ زادت في الآونة الأخيرة بعد إغلاق السوق أمام العمالة في داخل الأراضي المحتلة، وتركت هذه القرية التي تصنف استعمارياً كمناطق حدودية إلى مصير مجهول، وما يرافق ذلك من هجوم منظم تحولت فيه هذه القرية إلى حيز مسجون، وأصبحت الحياة فيها بشق الأنفس.
