Adbox

مؤسسة الدراسات الفلسطينيةنعود مجدداً إلى الكتابة بشأن إعدام الأسرى الفلسطينيين، عقب عودة القانون الإسرائيلي إلى واجهة النقاش من جديد، بعد أن أقرت لجنة الأمن القومي في الكنيست الإسرائيلي، يوم الإثنين 3 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بالقراءة التمهيدية لمشروع قانون يتيح فرض عقوبة الإعدام، وإلزامية تنفيذ الحكم بحق الأسرى الفلسطينيين الذين تصنفهم دولة الاحتلال الإسرائيلي على أنهم أسرى أمنيون؛ وتنعتهم بـ"الإرهابيين والقتلة"؛ وتُطلق عليهم وَسم "الأيادي الملطخة بالدماء"، وهم الذين أُدينوا بتنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية، أدت إلى مقتل إسرائيلي، بدوافع تصفها إسرائيل بأنها قومية أو عنصرية.

ومن ثم جرى تحويل مشروع القانون، الذي قدّمته النائبة ليمور سون هارميلخ، عن الحزب اليميني المتطرف عوتسما يهوديت أو "القوة اليهودية"، الذي يرأسه وزير الأمن القومي، "ايتمار بن غفير"، إلى الهيئة العامة للكنيست تمهيداً لمناقشته والتصويت عليه بالقراءات الثلاث اللازمة كي يصبح المشروع قانوناً نافذاً في المحاكم الإسرائيلية.

وفي تاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، صادقت الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي، بالقراءة الأولى على مشروع القانون في خطوة أثارت موجة من ردات الأفعال المنددة بشأن أبعاد قانون إعدام الأسرى وتداعياته. 

وهل تخلو القوانين الإسرائيلية من عقوبة الإعدام؟ 

لقد اعتمدت إسرائيل عقوبة الإعدام، قانوناً وممارسةً، منذ قيامها سنة 1948، بدءاً بما ورثته من قوانين الانتداب البريطاني على فلسطين، والتي شملت عقوبة الإعدام، بما في ذلك قانون الطوارئ لسنة 1945، مروراً بقانون محاكمة النازيين ومساعديهم لسنة 1950، وقانون العقوبات الإسرائيلي لسنة 1977، وصولاً إلى مشاريع قانون إعدام الأسرى التي طُرحت عدة مرات خلال العقد الأخير.

وبحسب منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية: "في العام 1954، ألغت إسرائيل تنفيذ عقوبة الإعدام في جرائم القتل الجنائية المدنية، لكنها أبقت على هذه العقوبة في جرائم قتل تتعلق بملاحقة النازيين وجرائم الإبادة وجريمة الخيانة. وفي العام 1962، تم إعدام أدولف آيخمان شنقاً، بعد إدانته بجريمة الإبادة وبجرائم ضد الإنسانية."

وتُضيف المنظمات الحقوقية: "تقدم دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها كأحد الدول التي ألغت عقوبة الإعدام، على الأقل في جرائم القتل العادية، لكنها من ناحية أُخرى لم تلغِ هذه العقوبة غير الإنسانية بالمطلق قانونياً؛ فهي تمارس من الناحية الفعلية تنفيذ إعدامات خارج إطار القانون بطرق متعددة." 

وقد جاء البند "ب" من المادة 300 من قانون العقوبات الإسرائيلي لسنة 1977،[1]  ليؤكد على ذلك، قائلاً: "كل مَن أُدين بارتكاب جريمة قتل بموجب المادة "2/و" من قانون محاكمة النازيين ومساعديهم لسنة 1950، يُحكم عليه بالإعدام." كما شملت المواد 96، و97، و98، و99 من قانون العقوبات ذاته، على عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد، بشرط أن تكون الجريمة قد ارتُكبت في زمن الحرب أو خلال فترة تجرى فيها هجمات عسكرية من جانب إسرائيل أو ضدها، على أن تُفرض بحق أي شخص أدين بالخيانة وارتكب عملاً بقصد المساس بسيادة الدولة، أو ارتكب فعلاً بقصد مساعدة العدو في حربه ضد إسرائيل، من دون أن تشمل ذكر عمليات القتل.

وبمقتضى القانون، أصدرت المحاكم الإسرائيلية أحكاماً بالإعدام، بحق أسرى فلسطينيين، من المناطق المحتلة سنة 1948، الذين يحملون الجنسية المزدوجة، الفلسطينية والإسرائيلية؛ لكن لم تنفذ تلك الأحكام؛ أبرزهم "كريم يونس"[2]  الذي صدر بحقه حكم الإعدام عقب اعتقاله سنة 1983 قبل أن يخفف إلى المؤبد ولاحقاً تم تحديد حكم المؤبد بـ40 عاماً، أمضاها كاملة وراء القضبان قبل أن ينعم بالحرية في كانون الثاني/يناير2023.

وقد لوحت المحاكم كثيراً وهددّت مراراً باللجوء إلى الإعدام، وطالبت النيابة الإسرائيلية عدة مرات بفرض عقوبة الإعدام بحق أسرى ينحدرون من المناطق المحتلة سنة 1967، وشاركوا، في سياق مقاومتهم للاحتلال، في عمليات أدت إلى مقتل إسرائيليين، لكن هذا الأمر لم يحدث، وبحسب متابعتي، لم يسبق أن صدرت أحكام، بصورة قانونية ورسمية، تقضي بعقوبة الإعدام بحق أي من هؤلاء الأسرى، وبتقديري أن هذا يعود إلى أن النص الوارد في قانون العقوبات الإسرائيلي لا ينطبق على حالتهم، وهو ما يتطلب تعديلاً على مواد قانون العقوبات الإسرائيلي لسنة 1977، إذا أصرَّت إسرائيل على المضي قدماً نحو تطبيق عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين.

من هنا، جاء مشروع القانون الجديد لينجز التعديلات المطلوبة، حتى يصبح قانوناً نافذاً في المحاكم الإسرائيلية، وبما يتيح إصدار وتنفيذ عقوبة الإعدام على مقاومين فلسطينيين.

وبعد الاطلاع على صيغة المشروع الجديد، يتبين أن المُراد من التعديل هو في الأساس إضافة بند "ج" للمادة 301/أ من قانون العقوبات الإسرائيلي لسنة 1977، المتعلق بجرائم القتل المشددة أو الخطِرة، التي كانت عقوبتها المؤبد.

ويُعتبر مشروع القانون الجديد نسخة محدثة من مشاريع قديمة تعود إلى عقد من الزمن وما يزيد، لكنه يحظى هذه المرة بدعم إسرائيلي أكثر من سابقيه، كما يُعتبر أشد تطرفاً عن غيره، إذ ينص على "أن كل مَن يُدان بقتل إسرائيلي بدافع عنصري أو عدائي أو بغية الإضرار بدولة إسرائيل والشعب اليهودي في أرضه يُحكم عليه بالإعدام والإعدام فقط إلزاماً من دون تقدير قضائي، وهو أمر غير مسبوق، على أن يصدر الحكم بأغلبية آراء القضاة (اثنان من ثلاثة قضاة) وألاّ يكون مشروطاً بالإجماع، ويمنع استبدال العقوبة بعقوبة أُخرى، بعد صدور الحكم النهائي، ومن دون إمكان تخفيف العقوبة لاحقاً.

وبهذا، يصبح القانون، لو أصبح تشريعاً نافذاً، غطاءً لشرعنة الجريمة وأداةً لتنفيذ الإعدام كعقوبة واجبة ضد الأسرى الفلسطينيين الذين أدينوا في المحاكم الإسرائيلية بقتل إسرائيليين على خلفية وطنية في سياق نضالهم المشروع ضد الاحتلال.

علاوةً على أن العقوبة تسري بأثر رجعي، وهذا يخالف القوانين الجزائية التي تسري بأثر مباشر بعد صدورها ونشرها بصورة رسمية وقانونية، حتى إنه يخالف بذلك المادة 3 من قانون العقوبات الإسرائيلي الذي ينص على أنه: "لا توجد عقوبة بأثر رجعي." [3]

القانون الجديد.. هل يلقى مصير سابقيه؟ 

منذ سنوات طويلة، تَعالت أصوات إسرائيلية، رسمية وشعبية، حزبية وسياسية، تُطالب بتنفيذ عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين. وكلما اشتدت عمليات المقاومة، ارتفعت معها نبرة هذه الأصوات واتسعت دائرة المطالِبين، وقُدمت بهذا الخصوص عدة مشاريع لقوانين تَصُب في الهدف ذاته، استجابة لدواعي حزبية داخلية في إسرائيل أو لدواعي الانتقام والثأر، وبينها ما حظي، سنة 2018، بموافقة الحكومة المصغرة (الكابينيت)، بعد أن أُقر بالقراءة التمهيدية في الكنيست الإسرائيلي، وفي نهاية السنة نفسها، وارضاءً لضغوط اليمين المتطرف، أعطى في حينها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الضوء الأخضر لجهات الاختصاص بالاستمرار في اتجاه الإقرار النهائي للقانون، لكن المشروع لم يُقر حينها، كسائر المشاريع الأُخرى من أشباهه، ولم يحظَ أياً منها بالقراءات الثلاث المطلوبة حتى يصبح قانوناً نافذاً في المحاكم الإسرائيلية.

لم يكن السبب في عدم الإقرار النهائي لأي منها، التزاماً بالقانون الدولي، وانصياعاً للإرادة الدولية التي تتجه إلى الإلغاء الكامل لعقوبة الإعدام، أو احتراماً لحق الإنسان في الحياة وحرصاً على حقوق الإنسان الفلسطيني الأسير، باعتباره قانوناً جائراً وظالماً، ويشكل انتهاكاً فظاً وجسيماً لمعايير حقوق الإنسان، وخرقاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني، إنما لأن إقرار قانون كهذا وإعادة تفعيل عقوبة الإعدام ضد الفلسطينيين، يمكن أن يلحق ضرراً فادحاً بمكانة إسرائيل الدولية، بحكم أن القانون يتعارض مع ما تبقّى من قيم الديمقراطية التي تدعيها، ويُظهرها أمام العالم بصورة أسوأ مما تسعى لترويجه والظهور به أمام العالم، كـ"دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان." فضلاً عن أن جميع القوانين التي قُدِّمت بهذا الخصوص، بما فيها القانون الجديد، تُصنَّف على أنها عنصرية؛ إذ تستهدف الفلسطينيين حصراً، ولا تشمل أي إسرائيلي يقتل فلسطينياً، ولا تنطبق على الإسرائيليين الذين أدينوا بتنفيذ اعتداءات عنصرية متطرفة أدت الى مقتل فلسطينيين، الأمر الذي يُكرس التمييز العنصري ضد الفلسطينيين ويعزز تصنيف عدة مؤسسات حقوقية سابقة على أنها دولة أبرتهايد، ويؤكد أن إسرائيل تسير في مسار تشريعي عنصري يخالف القانون الدولي الإنساني، وخصوصاً إذا طُبق في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لهذا، تجنبت إسرائيل في الماضي وضع نفسها في هذا الموقف المُحرج أمام العالم، استمراراً لمحاولاتها المتواصلة الهادفة إلى تجميل صورتها المشوهة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، ربما يُشعل حالة من التوتر الأمني في المنطقة ويدفِّعها ثمناً باهظاً ومؤلماً جرّاء الرد الفلسطيني، الأمر الذي سيُلحق الضرر بالأمن الإسرائيلي، ويهدد حياة الإسرائيليين؛ إذ سيدفع بالفلسطينيين الغاضبين إلى تصعيد مقاومتهم واللجوء إلى أساليب كفاحية أكثر عنفاً وإيلاماً للاحتلال، لطالما أن الموت المحتم هو ما ينتظر المقاوم الفلسطيني، وثأراً للشهداء الذين سيتحولون إلى حكايا تُشعل ثورة مَن تحت التراب وتُحرض الأحياء من بعد إعدامهم. 

لا أتوقع إقراره، لكن من غير المستبعد أن يصبح المشروع قانوناً.. 

لهذا، كنت سابقاً وما زلت أرى بأنه ليس من المتوقع إقرار قانون إعدام الأسرى بالقراءات الثلاث التي يحتاجها حتى يصبح قانوناً نافذاً في المحاكم الإسرائيلية، وإن حدث ما هو غير متوقع، فإني أستبعد أن تُقدِم الجهات التنفيذية في إسرائيل على إعدام أي أسير فلسطيني صدر بحقه حكماً بالإعدام، تجنباً لانتقادات المجتمع الدولي الذي يتجه إلى الإلغاء الكلي أو التعليق الدائم لعقوبة الإعدام، باعتبارها مخالفة جسيمة لحقوق الإنسان.

وكنت قد عبّرت عن رأيي هذا في مقال منشور منذ سنوات، عقب طرح مشاريع مماثلة، واليوم، مازلت أتبنى الرأي ذاته، ولا سيما أن صورة إسرائيل الدولية ازدادت تشوهاً بعد عامين من حرب الإبادة على قطاع غزة، وتتعرض لانتقادات إقليمية ودولية واسعة وحادة، رسمية ومؤسساتية وشعبية، وتواجه اتهامات جنائية وملاحقات قضائية ومذكرات توقيف طالت رئيس الوزراء الإسرائيلي وعدد من الوزراء والضباط، وتعاني جرّاء عزلة دولية آخذة في الاتساع، وستتفاقم أكثر في حال أقرت القانون بطريقة نهائية ونفذت أحكام الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين. وحينها، ربما يُصنف هذا على أنه وجه آخر من جرائم حرب الإبادة على قطاع غزة، وهو ما يمكن أن يلحق مزيداً من الضرر بصورة ومكانة إسرائيل الدولية، وهذا ما لا تريده إسرائيل راهناً وتسعى لتفاديه قدر الإمكان.

لكن في الوقت نفسه، فمن غير المستبعد، أن يصبح المشروع قانوناً نافذاً في المدى القريب، إرضاءً لليمين المتطرف الذي يزداد نفوذاً وتأثيراً في المجتمع الإسرائيلي، ويشكل أساس الائتلاف الحاكم في إسرائيل، ويسعى لكسب مزيد من أصوات الناخبين في صناديق الاقتراع المقبلة والتي من المتوقع أن تكون قريبة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه حتى عشية تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية نهاية سنة 2022 كان الترويج للقانون شرطاً ضمن اتفاق انضمام بن غفير للائتلاف الحاكم، وكذلك إعلان رئيس الأركان ورئيس الشاباك مؤخراً عن دعمهما لقانون الإعدام. علاوة على أن بين الإسرائيليين مَن يرى أن صفقات التبادل تضعف قوة الردع وتلحق أضراراً استراتيجية بقدرات الردع الإسرائيلية، وأن استمرار احتجاز الأسرى الخطِرين يشكّل تهديداً للأمن القومي.

وبالتالي، يجب إعدامهم والتخلص منهم، وكثير من الإسرائيليين يرون بأن في إثر أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر الفرصة سانحة اليوم، ولن تُعوض وربما لا تتكرر مستقبلاً. وهذه الفرصة تتعزز، من وجهة نظرهم، إذا تم إقرانه بمن أدينوا بالمشاركة في أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر وما تلاه، من أسرى غزة، ومَن يُصنفوا بـ"عناصر النخبة"، تزامناً مع السعي لإقرار قانون خاص لمحاكمتهم، وتحويلهم إلى متهمين بجرائم كبرى، في ظل تجريم فعلهم إسرائيلياً وتشبيهه بالهولوكوست، في وقت يتبنى فيه كثير من دول العالم الرواية الإسرائيلية بهذا الخصوص، وهذا من شأنه تسهيل تمرير القانون دولياً، والتخفيف من أضراره المحتملة على صورة ومكانة إسرائيل الدولية، بحسب مؤيدي القانون.

عندها، سنكون أمام واقع جديد أشد وجعاً وإيلاماً وأكثر دموية، تنحصر فيه مهمتنا في رصد أحكام الإعدام وإعدادها، وتوثيق أحداث التنفيذ وحكاياتها، وتعداد مزيد من أسماء الشهداء بين صفوف الأسرى والمعتقلين بفعل قانون الإعدام! 

هل إسرائيل تَنتظر قانوناً يُتيح لها إعدام الأسرى الفلسطينيين؟

إن النقاش المُثار بشأن مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين، يعطي انطباعاً خادعاً لدى كثير من المراقبين والمتابعين، وكأن إسرائيل في عداد الدول الديمقراطية التي ألغت أو علّقت عقوبة الإعدام، وتتجه اليوم إلى إعادة تفعيلها كردة فعل على أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، بينما الحقائق، والتي يجب إقرانها بأي حديث عن القانون، تؤكد أنها ومنذ احتلالها الأراضي الفلسطينية مارست وما زالت تمارس جرائم الاغتيالات والقتل المتعمد والإعدام الميداني بحق الفلسطينيين، فرادى وجماعات، ومن دون توقيف، وقد جعلت من الإعدام بديلاً للاعتقال في عدة أوقات وأزمنة متباعدة، من دون قانون يمكن أن يحرجها أمام العالم. كما أقدمت في عدة مرات، وتحت ذرائع متنوعة، وعبر أشكال وطرائق متعددة، على إعدام المئات من الفلسطينيين، بعد تحييدهم والسيطرة التامة عليهم، أو بعد اعتقالهم وسجنهم، فأعدمتهم إمّا بالرصاص الحي، وإمّا قتلتهم ببطء بسلاح التعذيب الجسدي والنفسي وسوء الرعاية الطبية والإهمال الطبي المتعمد، الذي كان قدراً حتمياً لكثير من الأسرى الفلسطينيين على مدار سنين الاحتلال الطويلة.

وهناك عدة نماذج لعمليات إعدام، بعضها وثقها المؤرخون والباحثون، وبعضها الآخر وثقتها شهادات الأسرى وألسن المفرج عنهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي، يضاف إليها ما التقطته الكاميرات من صور ومقاطع فيديو لمشاهد مروعة، بينما لا يزال ذلك اليوم الذي توثق فيه كل جرائم الإعدام بحق الفلسطينيين ينتظر القدوم.

فضلاً عن ذلك، ففي كل مرة تتعالى فيها الأصوات وتُثار فيها التصريحات الرسمية المطالبة بإعدام الأسرى، ويروج فيها للقانون، تزداد تداعياته خطورة على واقع الأسرى، وتتفاقم معاناتهم في السجون الإسرائيلية، وتتصاعد معها عمليات الإعدام خارج نطاق القانون، وكأن إثارة القانون والترويج له يشكل تحريضاً مباشراً وضوءاً أخضر للتضييق على الأسرى واستباحة حياتهم، ومنح القاتل الإسرائيلي غطاءً رسمياً وحصانة داخلية. 

وقد ظهر هذا جلياً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر؛ إذ تصاعدت عمليات القتل والإعدام الميداني بصورة لافتة وغير مسبوقة، وربما لا تكون آخرها واقعة إعدام شابين أعزلين في جنين بعد أن تم السيطرة عليهما واحتجازهما، ومن ثم إطلاق النار عليهما من نقطة الصفر بدم بارد، في جريمة وثقتها عدسات الكاميرات بالصوت والصورة، وما عقِبها من دعم صريح وعلني من وزير الأمن القومي، ايتمار بن غفير، لجنود الاحتلال الذين أطلقوا النار على الشابين الفلسطينيين. بينما غدت السجون والمعتقلات الإسرائيلية قطعة من جهنم كما تصفها المؤسسات الحقوقية، أو "مقابر للأحياء وبدائل مقصلة الموت" كما يروي الناجون في شهاداتهم، وسُجل خلال عامين من حرب الإبادة فقط سقوط نحو 81 شهيداً بين صفوف الأسرى والمعتقلين، وهؤلاء هم فقط الذين كُشف عنهم وعُرفت أسماؤهم، استناداً إلى توثيق مؤسسات الأسرى الفلسطينية، بينما تُشير التقديرات دوماً إلى أن العدد أعلى من ذلك، وهناك آخرين كُثر لم يُكشف عن هوياتهم وأعدادهم الحقيقية بَعد، كما لم يتم تحديد مكان دفن أو احتجاز جثامينهم.

وجاء تقرير منظمة أطباء حقوق الإنسان-إسرائيل، الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، لكي يتقاطع في مضمونه مع ما وردت في تقارير سابقة لمؤسسات الأسرى الفلسطينية؛ إذ جاء فيه: "إن منظمة أطباء لحقوق الإنسان-إسرائيل تمكنت من توثيق وفاة ما لا يقل عن 94 فلسطينياً في مرافق الاحتجاز الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر2023 وحتى 31 أغسطس2025." مع الإشارة إلى أن 4 آخرين أُعلن عن وفاتهم في السجون بعد هذا التاريخ، وهو ما يرفع العدد إلى 98.

 وتُضيف المؤسسة الحقوقية الإسرائيلية في تقريرها: "إن السياسة الرسمية للإخفاء القسري التي انتهجها الجيش الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر2023 لا تُتيح حتى يومنا هذا الوقوف على العدد الإجمالي للأسرى الفلسطينيين الذين توفوا في الحجز الإسرائيلي خلال العامين الماضيين، ولاتُمّكن من التحقُق من الحقيقة الكامنة وراء أوضاع وفاة كثيرين منهم."

بينما تُفيد تقارير وزارة الصحة في غزة بأن العديد من جثامين الشهداء (نحو 300 جثمان) المُعادة إلى غزة في إطار اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، ظهر عليها آثار تعذيب وتنكيل وحروق بشعة وإصابات بالرصاص وبتر، وبينها ما يعود إلى أسرى عادت جثامينهم وهم مقيدون ومعصوبو الأعين؛ لكي تشكل مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر المرحلة الأخطر تاريخياً، والأكثر دموية في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة.

واستناداً إلى ما ذكرناه آنفاً، فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي تمارس إعدام الفلسطينيين، كسلوك ومنهج قبل أن يكون مشروعاً أو يصبح في الأيام المقبلة قانوناً نافذاً في محاكمها، وهي لا تنتظر قانوناً يُتيح لها إعدام الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، بقدر ما هي في حاجة إلى تحقيق ما تسعى له من ردع الأسير وما يمثله و ردع المجتمع بكامله عن طريقه، وشرعنة جرائم قتلهم بصورة رسمية ومنظَّمة تحت مظلة القانون، والإساءة إلى هويتهم النضالية وكفاحهم التحرري.

إن هذا القانون يأتي تتويجاً لمسار طويل من محاولات نزع الشرعية عن الحركة الوطنية الأسيرة في إطار السعي الحثيث منذ سنوات طويلة، من أجل ترسيخ الرواية الإسرائيلية، وتقديمهم إلى الرأي العام الدولي على أنهم مجرمون وقتلة وإرهابيون يستحقون القتل، وليسوا مناضلين من أجل الحرية، وهو ما يشكل مساساً خطِراً بمكانتهم القانونية وإساءة صارخة لهويتهم الوطنية والنضالية.

ولأن الأسرى هم مكون رئيسي من مكونات القضية الفلسطينية، ويشكلون جزءاً أساسياً من نضال حركة التحرر الوطني الفلسطيني، فإن قانون إعدام الأسرى لا يستهدفهم فحسب، ولا يُجرم فعلهم المُقاوم أو نضال فئة منهم فقط، بل أيضاً يهدف إلى تَجريم كفاح الشعب الفلسطيني الطويل.

لذلك، يتوجب التحرك العاجل من أجل إفشال مشروع القانون، حمايةً للأسرى ودفاعاً عن حقوقهم ومكانتهم القانونية وهويتهم النضالية، في إطار الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في كفاحه المستمر من أجل الحرية والاستقلال.

 -----

[1] قانون العقوبات الإسرائيلي لسنة 1977. 

[2] عبدالناصر فراونة، "كريم يونس: أربعة عقود في السجن من دون أن يحرّره أحد"، "مدزنة الدراسات الفلسطينية، 30/11/2022.

[3] قانون العقوبات، مصدر سبق ذكره.

أحدث أقدم