Adbox

وطن - في الوقت الذي تمنع فيه إسرائيل الفلسطينيين من الوصول إلى محطات النفايات الصحية في الضفة الغربية، تتحول الأراضي الفلسطينية تدريجيًا إلى مكبٍّ ضخم للنفايات الإسرائيلية. وتشمل هذه المخلفات ما تنتجه المستوطنات الصناعية المقامة على الأراضي الفلسطينية، إضافةً إلى النفايات المهربة من السوق الإسرائيلي، بما في ذلك المواد الصناعية الخطرة والسامة التي تهدد البيئة وصحة السكان.

يعكس هذا الواقع أزمة بيئية متفاقمة، إذ تتحمل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 الأعباء والمخاطر الناتجة عن تهريب النفايات الإسرائيلية وإلقائها في المناطق المفتوحة، في ظل غياب الرقابة وضعف الإمكانيات الفلسطينية اللازمة لمواجهة هذا التدمير الإسرائيلي المنظم للبنية الإيكولوجية والبشرية الفلسطينية.

القانون يمنع .. والاحتلال يلوث بلا رادع

تمتدّ المستوطنات الصناعية الإسرائيلية كأذرعٍ أخطبوطيه في عمق أراضي الضفة الغربية، حيث تتدفق يوميًا آلاف الأطنان من النفايات الكيميائية السامة إلى البيئة الفلسطينية دون رقابة أو مساءلة. وبين مجارٍ ملوثة، وهواءٍ مشبّعٍ بالغازات الضارة، وتربةٍ أُنهكت بسمومٍ متراكمة، تتشكل أزمة بيئية صامتة تهدد الإنسان والحياة والزراعة في آنٍ واحد.

ورغم أن القانون الدولي يمنع نقل النفايات من مناطق الدولة المحتلة إلى الأراضي التي تحتلها، إلا أن الواقع يكشف منظومة متكاملة من الإهمال والتواطؤ، تسمح بتحويل الضفة الغربية إلى مكبٍّ مفتوح لمخلّفات المستوطنات الصناعية الإسرائيلية، على حساب صحة الفلسطينيين ومستقبل مواردهم الطبيعية.
ويمثّل تهريب النفايات الخطرة وغيرها من مخلّفات المستوطنات إلى الأراضي الفلسطينية تحديًا بيئيًا خطيرًا يهدد صحة المواطنين ويُلحق أضرارًا جسيمة بالبيئة. ويُعدّ هذا التهريب مخالفة صريحة للمادة (13) من قانون البيئة الفلسطيني رقم (7) لسنة 1999، التي تحظر استيراد النفايات الخطرة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتنصّ على معاقبة المخالفين بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة، مع مصادرة النفايات أو إتلافها على نفقة المخالف.

كما تشكّل هذه الممارسات خرقًا واضحًا للاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها السلطة الفلسطينية، وعلى رأسها اتفاقية بازل بشأن حركة النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلّص منها، والتي صادقت عليها كلٌّ من إسرائيل عام 1994 والسلطة عام 2015. وهو ما يؤكد الحاجة الملحّة إلى تعزيز قدرات المؤسسات الفلسطينية العاملة في مجال حماية البيئة، ويمثّل نداءً عاجلا للمنظمات الدولية لفضح هذه الانتهاكات الإسرائيلية بشكلٍ علني، ووضع حدودٍ قانونية واضحة لها استنادًا إلى التزامات المجتمع الدولي.

وبحسب الأمم المتحدة، يُعدّ إلقاء النفايات والمواد الخطرة والسامة أو الاتجار غير المشروع بها جريمةً بيئية، تُعرَّف بأنها مجمل الأنشطة غير المشروعة التي تمسّ بالبيئة وتعود بالنفع على أفراد أو مجموعات أو منشآت.

بيئة فلسطينية تختنق تحت النفايات

على مدار سنوات، يُهرِّب الاحتلال أنواعًا متعددة من النفايات، تشمل النفايات الطبية، والمواد الكيميائية، والزيوت المستعملة، والحَمأة الناتجة عن معالجة مياه الصرف الصحي، إضافةً إلى المعادن الثقيلة والنفايات الإلكترونية وغيرها، لتُلقى أو تُدفن في مناطق فلسطينية مفتوحة، الأمر الذي حوّل مساحات واسعة من الضفة إلى مكبٍّ إسرائيلي غير معلَن.

وتعمد إسرائيل إلى التحايل على قوانين حماية البيئة المطبَّقة لديها، بنقل الصناعات الملوِّثة ومرافق معالجة النفايات إلى الضفة الغربية، مستغلةً غياب السيادة الفلسطينية وصعوبة الرقابة على ما يسمى مناطق C حسب اتفاقيات أوسلو (نحو 61% من مساحة الضفة)، والتي تُعدّ خارج سيطرة السلطة الفلسطينية، وتحت سيطرة إسرائيل.

هذا ما أكّده بهجت جبارين، مدير دائرة الرقابة والتفتيش في سلطة جودة البيئة: "تمثّل مناطق (C) المخزون البيئي للضفة الغربية، فهي أراضٍ ذات تنوّع حيوي، إذ تضم محميات طبيعية وأراض زراعية ومصادر مائية، لكنها باتت هدفا رئيسيا لعمليات التخلّص من النفايات الإسرائيلية".
وأشار إلى أن: "معظم ما يتم ضبطه من النفايات يكون في مناطق (A) و(B) الخاضعة للسيطرة المدنية الفلسطينية، بينما تُلقى كميات أكبر في مناطق (C) القريبة من المستوطنات، مستغلين غياب الرقابة الأمنية الفلسطينية هناك".

ويضيف جبارين: "ما يُوثَّق من هذه الانتهاكات يمثل جزءًا بسيطًا جدًا من حجم التهريب الفعلي، نظرًا لصعوبة الوصول إلى مواقع الإلقاء ومحدودية الإمكانيات الرقابية."

عام (2024)، ضُبطت أكثر من (55) حالة تهريب نفايات إسرائيلية إلى الأراضي الفلسطينية. وتختلف أوزان الشحنات المضبوطة باختلاف طبيعتها، إذ قد تصل حمولة بعضها إلى (50) طنًا من مخلفات البناء والهدم المختلطة بنفايات خطرة، بينما لا تتجاوز شحنات أخرى (10) لترات من مواد كيميائية أو (1000) لتر من الزيوت المستعملة وغيرها من المواد الملوِّثة، بحسب جبارين.

ووفق منظمة (بتسيلم)، يدير الاحتلال أكثر من (15) منشأة لمعالجة النفايات في الضفة الغربية، منها (6) منشآت تعمل على معالجة النفايات الخطرة.
من جانبه، أكّد الدكتور عبد الرحمن التميمي، مدير مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، في حديثه لمجلة آفاق البيئة والتنمية، أن إسرائيل تتبع سياسات واضحة في استخدام الأراضي الفلسطينية كمكبٍّ للنفايات الصناعية والخطرة، مستغلةً غياب الرقابة وارتفاع تكلفة التخلص منها داخل إسرائيل. وأنّ: "معظم الصناعات الخطرة التي تم حظرها داخل إسرائيل لأسباب بيئية نُقلت إلى الضفة الغربية، مثل الدهانات والصناعات التي تنتج معادن ثقيلة كالكروم والمغنيسيوم."

واستحضر التميمي مثالًا حيًا لمصنع جيشوري في طولكرم، المتخصص في إنتاج الأسمدة الكيميائية، الذي نُقل من إسرائيل لتجنّب التلوث داخلها، مؤكدًا أن حياة العاملين الفلسطينيين في المصنع لم تُؤخذ في الاعتبار.

وبيّن التميمي أن أكثر من 22 مستوطنة أو مجمّعًا صناعيًا إسرائيليا يهدّد مصادر المياه والزراعة، لا سيما في مناطق سلفيت، وبروقين، وكفر الديك، ووادي قانا القريبة من المستوطنات الصناعية. وأضاف أن التوسع الصناعي مستمر، مع تجهيز مناطق جديدة مثل المنطقة الصناعية في قرية النبي صالح شمال غرب رام الله، بالقرب من مستوطنة "حلميش". فيما تُعدّ مستوطنات "بركان"، و"معاليه إفرايم"، و"أريئيل"، و"جيشوري"، و"الخان الأحمر" الأكثر ضررًا على البيئة الفلسطينية.

كما أن النفايات الزراعية الإسرائيلية تشكّل تهديدا بيئيا كبيرا، وبخاصة البلاستيك المستخدم في الزراعة والمبيدات غير المصرَّح بها دوليا، لا سيما في منطقة الأغوار، حيث تُترك مئات الآلاف من أقطار البلاستيك في الأراضي الفلسطينية عرضةً للريح، وهي مواد لا تتحلّل بسرعة، وتؤدي إلى تلوث التربة وإلحاق الضرر بالمواسم الزراعية، بحسب التميمي.

وفي السياق ذاته، تُصرَّف المياه العادمة المنزلية والصناعية من المستوطنات في الأودية، مثل وادي قانا شمال سلفيت ووادي النار جنوب القدس، مسببةً تراجع خصوبة التربة وجفاف الينابيع وتدهور العديد من أنواع النباتات.

التأثير الصحي

أظهرت تقارير فريق فني متخصص لتقييم الآثار البيئية لمستوطنة (جيشوري) الصناعية وجود حالات مرضية متزايدة في المناطق المجاورة للمستوطنة، شملت أمراض الجهاز التنفسي بمختلف أنواعها، وارتفاع معدل الإصابة بمرض السرطان فوق المعدل الطبيعي، وفق ما أكده بهجت جبارين.
وفي هذا السياق، أكد عبد الرحمن التميمي أن الخبراء الفلسطينيين لديهم مخاوف كبيرة من التأثيرات طويلة الأمد لهذه الملوثات، مشيرًا إلى أن آثارها تظهر تدريجيًا على صحة الإنسان مع زيادة معدلات الإصابة بالسرطان في مناطق محددة. واستحضر مثالًا حيًا من قرية عابود غرب رام الله، حيث تعتبر نسبة الإصابة بالسرطان الأعلى مقارنة بالمناطق المجاورة، محذرًا من أن السبب المرجح هو إلقاء النفايات الصناعية المهربة غرب القرية.

وأضاف التميمي أن هناك تخوفات أيضًا بشأن مصير مخلفات الأدوية والنفايات الطبية الإسرائيلية، وأن عدم معرفة وجهة هذه المواد يثير قلقًا كبيرًا، مشيرًا إلى شكوك بارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في مناطق جنوب الخليل نتيجة زيادة الإشعاعات من الملوثات والنفايات التي تُدفن داخل تجويفات في يطا وجنوب الخليل، ويتم إغلاقها بالإسمنت.

وأوضح التميمي أن تأثير الملوثات الثقيلة على الإنسان يظهر على المدى البعيد ويطال الأجيال القادمة، بينما يمكن للمزارع ملاحظة آثارها المباشرة على الأرض والتربة بعد موسم زراعي واحد، بتراجع خصوبة التربة وتضرر الإنتاج الزراعي.

تزايد المكبات العشوائية

قبل السابع من أكتوبر 2023، تبنّت سلطة جودة البيئة استراتيجية وطنية تهدف إلى القضاء الكامل على المكبّات العشوائية في مختلف محافظات الضفة الغربية، ونجحت بالفعل في إغلاق أكثر من 70% منها. إذ بلغ العدد الإجمالي للمكبّات العشوائية قبل ذلك التاريخ نحو 450 مكبًا، جرى إغلاق معظمها، فيما بقي نحو 100 مكب فقط تقع في مناطق نائية أو يصعب الوصول إليها عبر محطات النفايات الصحية.
إلا أنه بعد 7 أكتوبر، ومع إغلاق العديد من القرى والبلدات والمدن والطرق الرئيسية، أُنشأ أكثر من 50 مكبا عشوائيا جديدا، نتيجة صعوبة حركة البلديات والمجالس القروية، وعدم قدرتها على الوصول إلى محطات الترحيل الموزعة في الضفة الغربية، ما ساهم في تفاقم التلوث وزيادة المخاطر البيئية والصحية المرتبطة بالنفايات، وفق ما أفاد به بهجت جبارين.

وفي السياق ذاته، أكّد عبد الرحمن التميمي ازدياد كميات ومواقع النفايات العشوائية وغير المنظَّمة، مستشهدًا بمنطقة عطارة التي استُحدث فيها مكبٌّ ضخم للنفايات يخدم معظم القرى المحيطة. وأضاف أن عصارة النفايات تتسرّب إلى الينابيع القريبة على بعد مئات الأمتار فقط، مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة تنتشر في معظم مناطق الضفة الغربية.

إرجاع النفايات: مواجهة الاحتلال وفق بازل

بموجب اتفاقية بازل الدولية الموقَّعة من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، تعمل سلطة جودة البيئة الفلسطينية على إعادة جميع شحنات النفايات التي يتم ضبطها ويَثبت أن مصدرها داخل إسرائيل. وعلى مدار السنوات الماضية، أُعيدت العديد من الشحنات المحمّلة بمخلّفات البناء، والإطارات التالفة، والزيوت المستعملة، وغيرها، من خلال المعابر الرسمية ووفق آليات التسليم والإرجاع المعتمدة.
وأوضح بهجت جبارين أن كل الشحنات المعروفة المصدر يُبلَّغ عنها إلى سكرتاريا الاتفاقية، التي تتواصل بدورها مع وزارة البيئة الإسرائيلية لاستكمال إجراءات الإرجاع.

وأشار جبارين إلى أن الشحنات مجهولة المصدر تمثل تحديًا أكبر، إذ تبقى عالقة إلى حين إثبات السلطة مصدرها، خصوصًا إذا كانت موجودة في مناطق (C) الواقعة خارج السيطرة الفلسطينية المباشرة. وفي هذه الحالات، يتم التحفّظ على الشحنات في مواقعها داخل الأراضي الفلسطينية، بالتنسيق مع شرطة البيئة والنيابة العامة.

وأضاف أن بعض الحالات تشمل مقاولين أو سماسرة فلسطينيين تورطوا في تسهيل وصول الشحنات المهرّبة، وفي حال ثبوت حصولهم على الشحنة من مصدر إسرائيلي، تُعاد الشحنة ويُحال المتورط إلى القضاء الفلسطيني، حيث تُفرض عليه عقوبات صارمة تصل إلى السجن لمدة 15 عامًا، إضافةً إلى غرامات مالية تصل إلى 10 آلاف دينار أردني.

وبيّن جبارين أنه في حال تعذّر إثبات مصدر الشحنات، يتم التخلّص منها في مكبات محددة حسب نوع النفايات، إلا أنه في بعض الحالات، وبسبب غياب مكبات للنفايات الخطرة في الضفة الغربية، تُعاد الشحنات إلى الداخل المحتل على نفقة المتورطين، وتصل تكلفة التخلص منها إلى ما بين 10 و30 ألف شيكل.

واختتم جبارين بالتأكيد على أن أي فلسطيني يثبت تورطه في تهريب النفايات أو تسهيل دخولها يُعاقب وفق الإجراءات الصارمة ذاتها، مشددًا على أن المخالفات البيئية لا تسقط بالتقادم ولا تُغتفر.

أحدث أقدم