Adbox

مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بيتسيلم" - في بداية شهر أيلول عام 2018 وبعد سنوات من المداولات القضائيّة قرّر قضاة محكمة العدل العليا أنّه لا يوجد ما يمنع قانونيًّا هدم تجمّع خان الأحمر حيث أنّ البناء في المنطقة - الواقعة على بُعد نحو 2 كم جنوبيّ مستوطنة كفار أدوميم مخالف للقانون.
حين تعتبر المحكمة في قرارها أنّ هدم القرية ليس سوى مسألة تتعلّق بـ"تطبيق القانون" فهي تنوب عن الدولة بأمانة تامّة إذ تضع إسرائيل في هذا الإطار مجمل سياستها تجاه البناء الفلسطيني في أنحاء الضفّة الغربيّة طيلة سنين. على مستوى التصريحات تطرح السّلطات الإسرائيلية مسألة هدم منازل الفلسطينية على أنّها مجرّد مسألة بناء مخالف محض للقانون وكأنّما لا توجد لإسرائيل غايات بعيدة المدى في الضفة الغربية. وكأنّما لا توجد لهذه المسألة إسقاطات وآثار بعيدة المدى على حقوق الإنسان لمئات آلاف البشر وضمن ذلك على قدرتهم على المعيشة وكسب الرّزق وإدارة حياتهم.
تبنّت المحكمة العليا هذه الرؤية بتمامها. في آلاف القرارات والأحكام الصادرة خلال السنين في ملفّات موضوعها هدم منازل الفلسطينيين في الضفة اعتبر القضاة سياسة التخطيط الإسرائيلية قانونيّة ولا تشوبها شائبة مسلّطين الضوء في جميع الحالات تقريبًا، على الجانب التقنيّ: هل يمتلك من قدّم الالتماس ضدّ الهدم رخصة بناء. مرارًا وتكرارًا يغضّ القضاة الطرْف منذ البداية عن غايات وأهداف السياسة الإسرائيلية ويتجاهلون حقيقة أنّ إسرائيل تمنع البناء عن الفلسطينيّين بشكل شبه كلّي كما يتجاهلون عواقب ذلك: الحياة بالحدّ الأدنى من متطلّبات المعيشة وأحيانًا بظروف بائسة ومشينة والاضطرار إلى بناء منازلهم دون ترخيص والقلق الدّائم نتيجة انعدام اليقين المخيّم على المستقبل.

أ. سياسة التخطيط في الضفة الغربيّة
يعمل جهاز التخطيط الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية لخدمة سياسة تعميق وتوسيع السيطرة الإسرائيليّة على الأراضي في أرجاء الضفة الغربية: فيما يتعلّق بالتخطيط للفلسطينيّين تعمل الإدارة المدنيّة على منع أيّ تطوير وتقليص مسطّح البلدة وتكثيف البناء. الهدف من ذلك إبقاء أقصى ما يمكن من الأراضي احتياطيًّا لاحتياجات إسرائيل وعلى رأسها توسيع المستوطنات. أمّا حين يتعلّق الأمر بالمستوطنات - علمًا أنّ إقامتها مخالفة للقانون أصلًا - فأداء الإدارة المدنيّة معاكس تمامًا: يعكس التخطيط للمستوطنات احتياجاتها الحاليّة والمستقبليّة ومن هنا السّعي لإدخال أكبر مساحة ممكنة من الأراضي ضمن الخريطة الهيكليّة بهدف السيطرة على أقصى ما يمكن من مورد الأرض - هذا التوجّه في التخطيط يؤدّي إلى الهدر في تطوير البنى التحتيّة وفقدان مناطق طبيعيّة والتخلّي عن مساحات مفتوحة.
تحقّق إسرائيل هذه الغاية بطرق عدّة: فأوّلًا هي تمنع الفلسطينيّين من البناء في نحو 60% من مناطق C (وتشكّل ما يقارب 36% من مجمل أراضي الضفّة الغربيّة) بواسطة منح مختلف التعريفات القانونيّة لمساحات شاسعة (وأحيانًا يتطابق أكثر من تعريف على منطقة واحدة): "أراضي دولة" (نحو 35% من مناطق C) و"مناطق تدريبات" (نحو 30% من مناطق C) أو مناطق تابعة لمسطّح مستوطنة (نحو 16% من مناطق C) - هذه الفئات تُستخدم جميعها بهدف تقليص الحيّز المتاح للتطوير الفلسطينيّ إلى حدّ كبير. ثانيًا غيّرت إسرائيل في قانون التخطيط الأردني السّاري في الضفة واستبدلت كثيرًا من بنوده بأمر عسكريّ بحيث نقلت كلّ صلاحيّات التخطيط في الضفة إلى مجلس التخطيط الأعلى التابع للإدارة المدنيّة وألغت أيّ تمثيل فلسطينيّ في لجنة التخطيط. هكذا أصبحت الإدارة المدنيّة المسؤول الوحيد عن التخطيط والتطوير في الضفة الغربية - سواء في البلدات الفلسطينية أو في المستوطنات.
وثالثًا تستغلّ إسرائيل سيطرتها الحصريّة على جهاز التخطيط لتمنع التطوير الفلسطيني بشكل شبه تامّ ولكي تكثّف البناء حتى داخل الـ40% المتبقّية التي لا يُمنع الفلسطينيون مسبقًا من البناء فيها. في تشرين الأوّل 2018 قال رئيس الإدارة المدنيّة خلال جلسة في الكنيست إنّه لا يوجد اليوم أيّ تخطيط للفلسطينيّين وفقًا لتعليمات مسؤولين سياسيّين.
ولكن لكي تُظهر إسرائيل أنّ جهاز التخطيط يُدار على نحوٍ لائق تدّعي أنّ التخطيط في البلدات الفلسطينيّة يتمّ وفقًا لخرائط هيكليّة أعدّها الانتداب البريطاني في أربعينيّات القرن الماضي - تعرّف الاستخدامات المختلفة للأراضي في جميع أنحاء الضفة - علمًا منها أنّ هذه الخرائط بعيدة كلّ البُعد عن تلبية الاحتياجات الحاليّة للسكّان الفلسطينيّين. صحيح أنّ الإدارة المدنيّة قد أعدّت مئات "الخرائط الهيكليّة الخاصّة" للبلدات الفلسطينيّة بزعم استبدال الخرائط الانتدابيّة لكنّ حتى هذه الخرائط الإسرائيليّة غايتها التضييق على الفلسطينيّين وتقييد البناء إذ أنّ جلّ ما تفعله هو تطويق البلدات عبر ترسيم حدود تتاخم المناطق العمرانيّة للبلدة (في صور جوّيّة للبلدة).

نتائج هذه السياسة تنعكس جليًا في المعطيات:
طلبات رخص بناء: وفقًا لمعطيات الإدارة المدنيّة قدّم الفلسطينيّون 5,475 طلبات ترخيص بناء في الفترة الواقعة بين عام 2000 ومنتصف عام 2016 وتمّت الموافقة على 226 طلبًا فقط أي نحو 4% من الطلبات.
أوامر هدم: على مرّ السّنين أصدرت الإدارة المدنيّة آلاف أوامر الهدم لمبانٍ فلسطينيّة. وفقًا لمعطيات الإدارة المدنيّة صدر 16,796 أمر هدم في الفترة الواقعة بين عام 1988 وعام 2017؛ نفّذ منها 3,483 أمرًا (نحو 20%) ولا يزال 3,081 أمر هدم (نحو 18%) قيد المداولة القضائيّة. حتى عام 1995 (عام توقيع اتّفاقيّة المبادئ الانتقاليّة) أصدرت الإدارة أقل من 100 أمر هدم سنويًّا ولكن منذ تلك السنة أخذ يتزايد تدريجيًّا إصدار أوامر الهدم حتى بلغ معدّل 1,000 أمر سنويًّا بين الأعوام 2009-3,134.
تنفيذ هدم: وفقًا لمعطيات بتسيلم منذ عام 2006 (السنة التي بدأت فيها بتسيلم بتوثيق هدم المنازل) وحتى نهاية عام 2018 هدمت إسرائيل على الأقلّ 1,401 منزلًا فلسطينيًّا في الضفة الغربية بدون شرق القدس. في أعقاب الهدم فقد على الأقل 6,207 أشخاص منازلهم بينهم على الأقل 3,134 قاصرًا. وفي التجمّعات التي لا تعترف بها إسرائيل وجزء كبير منها مهدّد بالتهجير تهدم الدولة منازل السكّان مرارًا وتكرارًا. خلال هذه الفترة شرّدت إسرائيل مرارًا في هذه التجمّعات 1,014 فلسطينيًّا بينهم 485 قاصرًا نتيجة لهدم منازلهم المتكرّر.
التخطيط في المستوطنات صورة عكسية لما يحدث في البلدات الفلسطينيّة: ما عدا في مدينة الخليل أقيمت جميع المستوطنات في أراضٍ مفتوحة وأعدّت لجميعها تقريبًا خرائط هيكليّة مفصّلة وسخيّة التي استبدلت الخرائط الانتدابيّة القديمة التي كانت سارية على تلك الأراضي. تشمل الخرائط الجديدة تفصيلًا لاستخدامات الأرض المختلفة بما يتلاءم مع احتياجات البلدة الحديثة وبضمنها المساحات العامّة والمساحات الخضراء ومساحات للتوسّع والتطوير المستقبليّ تتعدّى بكثير احتياجات التكاثر السكّانيّ الطبيعيّ. كذلك اهتمّت الإدارة المدنيّة بشقّ شبكة شوارع حديثة تصل المستوطنات بعضها ببعض وتصلها بالجانب الآخر من الخطّ الأخضر - وخلال ذلك طوّقت البلدات الفلسطينيّة وقيّدت إمكانيّات تطويرها.

ب. قرارات محكمة العدل العليا – شرعنة تامّة لجهاز التخطيط
قدّم الفلسطينيّون على مرّ السّنين مئات الالتماسات إلى محكمة العدل العليا مطالبين بإلغاء أوامر الهدم التي أصدرتها الإدارة المدنيّة. في معظم الحالات تُصدر المحكمة أمرًا مؤقتًا بتجميد الهدم يمنع الدولة من تنفيذه إلى حين البتّ في القضيّة. ولكن هذا التجميد يجبي في أحيان كثيرة ثمنًا باهظًا من السكّان. فمثلما تمنع المحكمة الدولة من الهدم تمنع أيضًا السكّان الفلسطينيّين من بناء المنازل والمباني العامّة أو الاتّصال بشبكات البنى التحتية أو حتّى ترميم المباني القائمة - بما في ذلك الترميمات الضروريّة. بذلك يجد السكّان الفلسطينيّون أنفسهم خاضعين لفترات طويلة من التجميد وانعدام اليقين بخصوص مستقبلهم.
في نهاية الأمر ترفض المحكمة كثيرًا من الالتماسات - حيث يرفض القضاة جميع الحجج المبدئيّة التي طرحها السكّان بخصوص سياسة التخطيط التي تطبّقها إسرائيل في الضفة بل هم يرفضون حتى النظر في بعض هذه الحجج. وهناك التماسات يسحبها الملتمسون أنفسهم - أحيانًا في أعقاب تبليغ من الدولة بأنّها لا تعتزم تنفيذ أمر الهدم في هذه المرحلة وبعد أن التزمت تجاه الملتمسين بإخطارهم مسبقًا إذا غيّرت موقفها. ولكن بناءً على المعلومات المتوفّرة لدى بتسيلم لم يحدث ولو مرّة واحدة أن قبل القضاة التماسًا قدّمه فلسطينيّون ضدّ هدم منزلهم.

1- الموافقة على نهب مساحات شاسعة من الفلسطينيّين في الضفة
لا يرى القضاة أيّة غضاضة في الإعلان عن "أراضي دولة" أو عن "مناطق تدريبات" في الضفّة الغربيّة - ورغم تقديم حجج تطعن في قانونيّة هذه الإجراءات أمام القضاة قبل هؤلاء في كلّ مرّة ادّعاء الدّولة بأنّ البناء الفلسطينيّ مخالف للقانون وعليه يجب هدم المباني.
لطالما قبلت المحكمة العليا موقف الدولة القائل بأنّه لا يُسمح بأن يبني الفلسطينيّون على "أراضي الدّولة" علمًا أنّ الأمر مسموح للمستوطنين. وفي الحالات التي ادّعت الدّولة فيها أنّ المباني موضوع الالتماس أقيمت على أراضٍ معلنة "مناطق تدريبات" لا تنظر المحكمة أبدًا في جوهر المسألة أي في إعلان الأرض منطقة تدريبات: هل هو مبرّر أو قانونيّ وهي لا تفعل ذلك حتى عندما يطرح الملتمسون حججًا واضحة في هذا السّياق. عوضًا عن ذلك تقتصر مناقشة هذه الحالات على السؤال: هل الملتمسون هم مقيمون دائمون في منطقة إطلاق النار - لأنّه فقط عندئذٍ تسمح لهم الأوامر العسكرية البقاء فيها. في جميع الحالات التي بتّت فيها المحكمة حتى الآن صادق القضاة على هدم المنازل بناءً على قبول ادّعاء الدولة أنّ الملتمسين ليسوا كذلك أي ليسوا مقيمين دائمين.

2-التسليم بأنّ جهاز التخطيط قانونيّ ولا تشوبه شائبة
أقرّ القضاة أنّ التغيير الذي أجري على قانون التخطيط الأردنيّ قانونيّ وضروريّ - رغم أنّ القانون الإنسانيّ الدوليّ يمنع الدولة المحتلّة من إجراء تغييرات على القانون المحلّي عدا استثناءات لا تنطبق في الحالة التي أمامنا. بذلك تجاهل القضاة حقيقة أنّ هذا التغيير أتاح لإسرائيل أن تركّز في يديها مجمل جهاز التخطيط وأن تُخرج الفلسطينيّين من جميع لجان التخطيط وأن تمنعهم من المشاركة في تقرير مستقبلهم. هذا التغيير هو ما أتاح في السنوات اللّاحقة إقامة جهازي تخطيط متوازيين - واحد للفلسطينيّين وواحد للمستوطنين.
علاوة على ذلك قرّر القضاة أيضًا أنّ جهاز التخطيط المعدّ للفلسطينيّين يلبّي احتياجاتهم بشكل جيّد. لقد سلّم القضاة بحقيقة أنّ الخرائط الهيكليّة الانتدابيّة التي أكل عليها الدهر وشرب لا تزال صالحة لتسري على القرى الفلسطينيّة علمًا أنّها لا تسري على المستوطنات. وقرّر القضاة أنّ الخرائط الهيكليّة التي أعدّتها الإدارة المدنيّة للبلدات الفلسطينيّة ملائمة وتلبّي احتياجات السكّان - رغم أنّها موحّدة ومتصلّبة حيث لا تخصيص أراضٍ لمساحات عامّة وحيث ينحصر التطوير المستقبليّ داخل المناطق العمرانيّة في القرية. كما أقرّ القضاة أنّ لجان التخطيط في الإدارة المدنيّة تفحص طلبات ترخيص البناء التي يقدّمها الفلسطينيّون بجدّية وبنظرة مهنيّة - رغم أنّه لا يوجد فيها تمثيل للفلسطينيّين وأنّها وافقت فقط على عدد ضئيل جدًّا من طلبات الترخيص.

على أساس هذه المنطلقات ينظر القضاة في الالتماسات بوصفها تتعلّق فقط بتطبيق قوانين التخطيط والبناء وبالتالي يرفضونها على أساس "البناء المخالف للقانون" ويطالبون الملتمسين باستنفاد جميع الإجراءات – العقيمة وجب القول - التي يوفّرها الجهاز لهم ويستنكرون التعدّي على القانون والبناء بدون ترخيص، رغم أنّه لا خيار آخر أمام الفلسطينيّين.

3-شرعنة ضمنيّة للسّياسة الإسرائيليّة
تضفي المحكمة على سياسة الدولة طابع الشرعيّة القانونيّة بشكل ضمنيّ أيضًا وذلك عبر وسيلتين:
أ. تمويه الفروق بين أجهزة التخطيط المختلفة: في قراراتهم في الالتماسات موضوعها البناء في البلدات الفلسطينيّة يقتبس قضاة المحكمة العليا من قرارات سابقة تتعلّق بالتخطيط في المستوطنات وداخل الخطّ الأخضر - ويحدث العكس أيضًا حيث القرارات في التماسات موضوعها التخطيط في المستوطنات أو داخل إسرائيل تتضمّن اقتباسات من قرارات سابقة تتعلّق بالتخطيط للسكّان الفلسطينيّين. الاستناد إلى سوابق قضائيّة هو أحد مميّزات جهاز القضاء الإسرائيليّ. ولكنّ أجهزة التخطيط المذكورة تعتمد قيمًا مختلفة ومعدّة للدّفع بمصالح متعارضة. شتّان بين جهاز غايته التخطيط لأجل رفاهيّة السكّان كما هو الحال في المستوطنات والبلدات اليهودية داخل الخطّ الأخضر وجهاز غايته السّعي إلى وتنفيذ وشرعنة سلب السكّان منهجيًّا كما في البلدات الفلسطينيّة. تخلط قرارات المحكمة الحابل بالنّابل وتمحو الفروق ليبدو الجهاز الفاقد للشرعيّة تمامًا جهازًا أخلاقيًّا وشرعيًّا.

ب. الانتقائيّة في التعامل مع أحكام القانون الدوليّ: تشرعن المحكمة جهاز التخطيط أيضًا عبر الإيحاء بأنّ التخطيط لأجل السكّان الفلسطينيّين يستوفي متطلّبات القانون الإنسانيّ الدوليّ. يتمّ ذلك غالبًا بواسطة مقتطفات انتقائيّة من أحكام القانون بهدف خلق انطباع أنّ السياسة الإسرائيليّة تنسجم وذلك القانون وتجاهُل أحكام أخرى - كتلك التي تحظر إجراء تدريبات عسكريّة أو إقامة مستوطنات.
يبرز على نحوٍ خاصّ تجاهُل القضاة حقيقة أنّ تطبيق سياسة التخطيط الإسرائيليّة ينطوي على خرْق الحظر القطعيّ للنقل القسريّ - علمًا أنّ ادّعاءات في شأن نقل قسريّ قد طُرحت أمامهم. يسري هذا الحظر أيضًا في الحالات التي يغادر الأشخاص منازلهم رغمًا عنهم نتيجة لظروف معيشيّة لا تُطاق أنشأتها السّلطات - على سبيل المثال عبر فصلهم عن شبكات المياه والكهرباء وعبر تحويل مناطق سكناهم إلى مناطق تدريبات أو عبر الهدم المتكرّر لمنازلهم. خرْق هذا الحظر يشكّل جريمة حرب.

جـ. عدلٌ زائف
تتعامل المحكمة مع جهاز التخطيط الذي أقامته إسرائيل للسكّان الفلسطينيّين في الضفة وكأنّه جهاز تخطيط مماثل لذلك الذي أقامته للمستوطنين - رغم أنّ الفرق بين الجهازين شاسع. حتّى أنّ القاضي حنان ملتسر قال في إحدى جلسات النظر في التماسات خان الأحمر التي انعقدت خلال عام 2018 قال: "قانون واحد للجميع" حين تطرّق إلى تطبيق قوانين التخطيط والبناء على الفلسطينيّين والمستوطنين سواءً بسواء.
غير أنّ السياسة التي تتّبعها إسرائيل مع المستوطنين معاكسة لتلك التي تتّبعها مع الفلسطينيّين. ورغم صرخات ادعاء المظلوميّة التي تعلو من حين لحين في أوساط المستوطنين يكفي النظر إلى الواقع كما هو لرؤية الفرق الشاسع بين التخطيط لأجل المستوطنين والتخطيط لأجل الفلسطينيّين. في السنوات الخمسين الماضية أقامت الدولة نحو 250 مستوطنة جديدة - يحظر القانوني الدولي إقامتها أصلًا وفي الفترة نفسها أقامت بلدة فلسطينيّة واحدة فقط نُقل إليها تجمّع بدويّ كان قائمًا في منطقة خصّصتها إسرائيل لتوسيع مستوطنة. وهكذا فحتى إقامة البلدة الوحيدة هذه جاءت لخدمة احتياجات إسرائيل. في المقابل أقامت إسرائيل جهازًا لا يتيح للفلسطينيّين الحصول على رخص بناء ويبذل جهودًا ملحوظة في فرض شروط مشدّدة على أيّ بناء يخدم السكّان الفلسطينيّين ومن ثمّ التشدّد في تطبيقها أيضًا.
الفجوة شاسعة بين هذا الواقع والواقع الذي تصفه آلاف قرارات المحكمة العليا - حيث يكتب القضاة عن "سلامة الأداء" وعن "استنفاد جميع الإجراءات" ويقبلون ادّعاءات الدولة بحرفيّتها حول التخطيط لأجل الفلسطينيّين وفي النهاية يسمحون للدولة بهدم منازل مقدّمي الالتماس ويفرضون عليهم العيش في بؤس مستديم. صحيح أنّ المحكمة ليست من يسنّ القوانين ولا هي من يضع السياسة أو يطبّقها ولكنّ من صلاحيّة قضاة المحكمة - ووظيفتهم - الإقرار بأنّ سياسة إسرائيل مخالفة للقانون ومنعها من هدم المنازل. عوضًا عن القيام بواجبهم يختار القضاة مرّة تلو الأخرى منح هذه السياسة شرعيّة قانونيّةوشرعنتها على المستوييْن القانوني والجماهيري. وهكذا فإن القضاء لا يخونون وظيفتهم فحسب بل أيضًا يقومون بدور مركزي في تأصيل صناعة الاحتلال والاستيطان وكذلك تعميق سلب أراضي الفلسطينيين.
حن ننطلق من فرضيّة أنّ القضاة يدركون جيّدًا - أو على الأقلّ يُفترض بهم أن يدركوا -الأرضيّة القانونيّة التي يمهّدونها عبر القرارات التي يصدرونها والنتائج المدمّرة المترتّبة عليها ومن ضمنها خرْق حظر النقل القسريّ في القانون الإنسانيّ الدوليّ. من هنا يُعتبر القضاة أيضًا - إضافة إلى رئيس الحكومة وكبار الوزراء وقائد الأركان العامّة وذوي الرّتب الرّفيعة في الجيش - مسؤولين شخصيًّا عن تنفيذ مثل هذه الجرائم.
بالنسبة إلى إسرائيل الفائدة الأساسيّة الكامنة في الاحتفاظ بـ"جهاز تخطيط" للسكّان الفلسطينيّين هي خلق مظهر زائف لنظام سليم يُدار كما ينبغي ويعمل وفقًا للقانون - الدوليّ والإسرائيليّ. وجود هذا الجهاز يتيح للدولة تبرير هدم المنازل ومواصلة التضييق في مجال التخطيط عبر الادّعاء بأنّ الفلسطينيّين هم من يختار مخالفة القانون وخلق قانونهم الخاصّ متعمّدين البناء "بدون ترخيص" - وكأنّهم يملكون أصلًا خيارًا آخر. غير أنّ محاولة إضفاء مظهر لائق على جهاز التخطيط في المنطقة المحتلّة تقع ضمن خانة الترويجّ الدّعائيّ ليس إلّا. يُفترض بجهاز التخطيط أن يعكس مصالح السكّان وأن يخدم احتياجاتهم ولكنّ علاقات القوّى تحت نظام الاحتلال ليست تناظريّة بحُكم التعريف وممثلو نظام الاحتلال لا يمثّلون السكّان الواقعين تحت الاحتلال فهؤلاء لا تمثيل لهم في أجهزة المنظومة التي تقرّر وتحدّد تفاصيل حياتهم: لا في إجراءات التخطيط والتشريع ولا في تحديد الأوامر العسكريّة ولا في لجنة تعيين القضاة.
يبدو أحيانًا وكأنّ الدولة نفسها سئمت من بذل الجهود في خلق صورة زائفة تضفي مظهرًا لائقًا. ترسيم خرائط المباني وتنفيذ الإجراءات في اللّجان وإعداد الرّدود على الالتماسات وما إلى ذلك - هذا كلّه يستغرق وقتًا ويتطلّب جهدًا. لدينا من جهة دولة تملك كتائب من المحامين وموارد ماليّة طائلة وأجهزة تخطيط تعمل طوع أمرها وجهازًا قضائيًّا يعمل راغبًا في تبييض الصّورة. وفي الجهة المقابلة سكّان مستضعفون لا يملكون التمثيل ولا الوسائل الكافية لهذه المواجهة إذ يرزحون منذ أكثر من نصف قرن تحت وطأة نظام عسكريّ أصبحت معه حرّيتهم وأرزاقهم على كفّ عفريت. ورغم ذلك تتذمّر سلطات الدولة من الشهور والسنوات المنقضية إلى حين صدور قرار المحكمة فهذا يعرقل مسيرة النّهب والسّلب بإبطاء وتيرتها وتضييق نطاقها.
من هنا الجهود المتزايدة التي تبذلها الدولة في السنوات الأخيرة لأجل الالتفاف على الإجراءات القضائيّة المتعلّقة بهدم منازل الفلسطينيّين أو حتّى إبطالها. استعداد الدّولة للتخلّي حتى هذه الشكليات يدلّ أكثر ما يدلّ على ثقة إسرائيل بأنّها لن تحاسَب ولن تدفع ثمنًا يعادل فداحة ما تقوم به من انتهاك الحقوق وخرق القانون - لا على الصّعيد المحلّيّ ولا على الصّعيد الدوليّ. نظرت محكمة العدل العليا في قانونيّة هذه الأوامر خلال كتابة هذا التقرير والمفارقة هي أنّ المحكمة العليا مدعوّة الآن للنظر في نزع القناع الذي كانت شريكة أساسيّة في وضعه.
ولكن سواء أقرّ قضاة المحكمة العليا نزع القناع أو امتنعوا عن ذلك يبقى أنّهم قد مهّدوا الأرضيّة لسياسة التخطيط الظالمة ورفعوا عُمدها حين قاموا بشرعنة عمليّة تجريد الشعب الفلسطينيّ من أراضيه. ما مدى حرص هؤلاء القضاة الحفاظ على الشكليات وهل سيصرّون على إبقاء القناع للحفاظ على صورة لائقة؟ إنّه في نهاية الأمر سؤال يتعلّق بالصّورة لا أكثر ولا ينبغي له أن يحرف أنظارنا عن واقع النهب والسّلب الذي أنشأته إسرائيل والذي سمح به القضاة وسوّغوه وشرعنوه - ولا يزالون.
أحدث أقدم